( صحيفة عين الحقيقة )
منذ أوّل يوم نزل فيه الوحي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أدرك رسول الله أنّه مهاجرٌ من مكّة المكرّمة، ولقد أبلغه ورقة بن نوفل بذلك، حينما قال له أنّه: ما من نبيّ أُرسل إلا وجاهده قومه وكذّبوه وأخرجوه، فكان -صلّى الله عليه وسلّم- مدركاً لضرورة الهجرة باكراً مقدّراً الظّرف الّذي أحاط به، ولقد سبق الهجرة النبويّة إلى المدينة المنوّرة هجرةٌ أولى إلى الحبشة؛ فقد اشتدّ عذاب الكفّار كثيراً على صحابة رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- حتّى أضرّ بهم هذا الحال، فأمرهم الرّسول -عليه السّلام- أن يتّجهوا إلى الحبشة؛ ليقيموا فيها ويبتعدوا قليلاً عن بطش قريش وظلمهم.[١]
وترجع الأسباب التي أدّت إلى الهجرة النبويّة الشّريفة؛ إلى عدم تقبّل كفّار قريش دعوة النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- وعدم تصديقها والعمل بها، ولقد كان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- في بداية الدّعوة حريصاً أشدّ الحرص أن يهدي قومه وأهله إلى الإسلام والنّجاة من عذاب الله تعالى، بل إنّ الله تعالى أراد ذلك؛ فأمر نبيّه في بداية الدّعوة أن يدعو أهله المقرّبين، قال تعالى: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)،[٢] لكنّهم قابلوه بالكفر المتتابع، والإيذاء له وتتبّع النّاس الذين يدعوهم النبيّ؛ ليقنعوهم أنّه -عليه السّلام- ساحرٌ كذّابٌ، ثمّ لحق الضّرر أصحابه أيضاً فاستضعفوهم وعذّبوهم؛ فتطلّع رسول الله حينها لبلدٍ يستقبله هو ودعوته والمؤمنين، ويبدأ ببناء الدّولة الإسلاميّة ويطبّق شرائعها بعيداً عن هذه الظّروف الصّعبة، ولقد جاء ما يشجّعه -عليه السّلام- على ذلك عندما التقى نفراً من الخزرج قد أتوا مكّة المكرّمة، فعرض عليهم الإسلام فأسلموا، ثمّ عادوا في العام القادم وقد ازدادوا عدداً وطلبوا مرشداً لهم؛ يعينهم على أمر دينهم، فأرسل رسول الله معهم مصعب بن عمير داعياً ومعلّماً لهم، فازداد عدد المسلمين من الأنصار بعد ذلك، ثمّ بايعوا رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- على الدّعوة والنّصرة ما استطاعوا، فكان ذلك محفّزاً لرسول الله للانتقال إلى المدينة المنوّرة.[١]
موعد الهجرة النبويّة
أذن الله تعالى لنبيّه بالهجرة إلى المدينة المنوّرة بعد ثلاث عشرة سنةٍ من البعثة والدّعوة في مكّة المكرّمة، فبعد أن صارت الدّعوة صعبةً عسيرةً في مكّة، وكان الأوان قد آن للبدء ببناء دولةٍ إسلاميّةٍ وإرساء قواعدها، فاستقبل رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وجهته الجديدة، وقصد المدينة المنوّرة، ولا شكّ أنّ هذا القرار جاء ليصنع حدّاً فاصلاً بين مرحلتين مختلفتين في الظّروف وآليّة الدّعوة وحتّى في نفوس المؤمنين الصّحابة.[٣][٤]
أخبر رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أبا بكرٍ -رضي الله عنه- أنّ الله تعالى قد أذن له بالخروج والهجرة، فاستأذن أبو بكرٍ رسول الله بمصاحبته في هجرته، فأجاب رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- طلب أبا بكرٍ، واتّفقا أن يلتقيا بعد ثلاثة أيّامٍ خفيةً في غار ثور، وقد استأجرا دليلاً هو عبد الله بن أريقط، ليكون دليلهما في مشوارهما، وقامت عائشة وأسماء -رضي الله عنهما- بتجهيز متاع السّفر لأبيهما ورسول الله، وقبل طلوع فجر اليوم المتّفق عليه خرجا ليلتقيا في الطّريق، ولم يطُل غيابهما حتّى أدرك المشركون أنّهما قد خرجا مهاجرين إلى المدينة، فرصدوا كلّ تحرّكٍ على الطّريق، وجعلوا الهدايا الثّمينة لمن يأتي بأيّ خبرٍ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، إلا أنّ رسول الله كان قد احتاط لذلك بأن سلك طريقاً غير معتادٍ أن يُسلك؛ ليموّه على قريشٍ الأمر، ولا شكّ أنّ الله تعالى قد حجب عنهم الدّليل كذلك، حتّى وصل رسول الله وصاحبه إلى غار ثور.[٤]
وقدّر الله تعالى؛ لحكمةٍ أرادها، أن يصل كفّار قريش إلى غار ثور حيث الرّسول وأبو بكرٍ موجودان، إلا أنّ الله تعالى حجب عنهم رؤيتهما حتّى غابوا عنهما، وأبو بكرٍ يبكي خوفاً على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتتنزّل الآيات الكريمة التي تصف ذلك بقوله تعالى: (ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا)،[٥] وبعد ثلاثة أيّامٍ من المكوث والانتظار خرج رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- وأبو بكرٍ من الغار بعد أن تأكّدا أنّ حركة قريش قد قلّت في المكان، ومشوا باتّجاه المدينة المنوّرة.[٤]
مُعجزات في طريق الهجرة
حدثت مع رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- عدّة أحداث تُعدّ من المعجزات التي أيّده الله تعالى بها، يُذكر منها موقفان، هما:[٤]
- لمّا رصدت قريش الهدايا والمكافآت لمن يأتي بخبرٍ عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، طمع رجلٌ اسمه سُراقة بن مالك بالهدايا والعطاءات؛ فاتّجه مسرعاً إلى الطّريق باحثاً عن أثرٍ لنبيّ الله وصاحبه، وقد وصل إليهما فعلاً، فلمّا رآهما وحاول الوصول إليهما، ارتطمت به فرسه إلى بطنها، فأدرك سُراقة أن النبيّ محفوظٌ ومؤيّدٌ من الله تعالى، فوعده رسول الله بسوار كسرى في مقابل أن لا يخبر أحداً بخبرهما، فصار يُشغل المشركين عنهما ولا يدلّ عليهما.
- في طريق الرّسول إلى المدينة نزل بخيمة أمّ معبد، فسألها طعاماً أو لبناً، فأخبرته أنّه لا يوجد عندها سوى شاةً هزيلةً لا تحلب لبناً، فأخذ النبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- الشّاة، فمسح ضرعها بيده الشّريفة، ودعا الله تعالى أن يبارك حليبها، فنزل حليبها فشرب منه الجميع