( صحيفة عين الحقيقة )
قام نورُ الدين محمود زنكي ببناء جامع النوري سنة 566 هـ في مركز مَدينة المَوْصل شمال العراق، في الجانب الغربي من دِجلة في محلَّةٍ تُعرَف باسمه بالجامع النوري أو (الجامع الكبير)؛ لسَعتِه وعظمةِ مبانيه، ويُعتبر هذا الجامع ومنارته المعروفة بمنارة الحدْباء مِن أشهر المعالِم الإسلاميَّة التي كانت شاخِصة في هذه المدينة، وقد عُدَّ هذا الجامع في مُقدِّمة الآثار الإسلاميَّة النفيسة؛ إذ حافظ على قِدمه قدرَ المستطاع، وبقيتْ منارتُه المعروفة بالطويلة أو بالحدباء.
ومِن أبرز معالِم هذا الجامع منارتُه الشهيرة بالحدباء، يبلغ ارتفاعُها نحو 65 مترًا، وهي مِن المآذن الجميلة المميَّزة بأساليبَ فنيَّة، غنية بالزخارف الآجُريَّة المتنوِّعة.
تَتَكَوَّن هذه المِئْذنة من قاعدة مكعَّبة نصف هرميَّة، ارتفاعها (65، 8 م)، وهي تتألَّف من جُزْأين، الأول مبنيٌّ بالحَجر والجصِّ، يبلغ ارتفاعه (8، 80م)، أمَّا الجزء الثاني العُلوي، فهو مشيَّد بالآجُرِّ، واجهتُه مزدانة بتشكيلة زُخرفية رائِعة، ارتفاعه (7م)، يقوم فوق هذه القاعدة بَدنٌ أُسطواني يبلغ ارتفاعُه (19، 20م)، ويتألَّف هذا البدن من سَبْع وحدات نباتية مُزدانة بزخارفَ آجُريَّة فاخِرة، متنوِّعة الأشكال.
للمنارة مدخلانِ يَصِلُ كلٌّ منهما بواسطة دَرَج إلى الأعْلى، وقد تفنَّن المعمارُ في تصميم بناء السُّلَّم، فجعل سُلَّمين في باطِن المنارة، كل منهما منفصلٌ عنِ الآخر، يلتقيانِ عندَ منطقة الحِصن في الأعلى، فالصاعِد إلى الأعْلى لا يرى النازل إلى الأسفل، وهذا النوع مِنَ السلالم موجودٌ في منارة سوق الغزْل في بغداد، التي لا تزال قائمة، وهذا التطوُّر الفريد في مِئذنة الجامِع النوري بالمَوْصل انتقل تأثيرُه إلى المئذنة المظفريَّة في أربيل 630 – 586 هـ / 1232 – 1190 م.
والمنارة المائِلة أو الحدباء رغمَ مرور سَبْعةِ قرون تقريبًا على تَشييدها، لكنَّها كانت لا تزال مائلةً وشاخصة للعِيان، دون أن تقَعَ، رغمَ عدمِ وجود الصِّيانة اللازمة لذلك، كالتي تحدُث للكثير مِن الأبراج المائلة في العالَم، وتُعدُّ حسب الإحصاءات الآثاريَّة أطولَ الأبراج المائِلة في العالَم، ولقدْ أكَّد الباحثون الإيطاليُّون الذين وفدوا لمعالجة الشروخ التي ظهرتْ في جسد المنارة منتصفَ سبعينيات القرن المنصرِم: أنَّ منارة الحدباء هي الأطولُ في العالَم بين مثيلاتها، وهي الأجملُ في فنون العمران، وأنَّ مسألة تشييدها بهذا الارْتِفاع الشاهق في زمن بنائِها يُعدُّ معجزةً؛ إذ إنَّها ارتفعتْ بطول (65 م) وعرض (17 م)، وهذا الأمر في حدِّ ذاته يُعتبر من الخوارق العمرانيَّة في زمن بعيد جدًّا عن تكنولوجيا الإنشاء والعمران، لم تعرفْ فيه الرافعات العملاقة، ولا الوسائل المساعِدة التي يتعكَّز عليها المعمارُ المعاصِر.
وقد وجَد الفريقُ العلمي أنَّ المئذنة تُعدُّ مِن مصافي أبراج العالَم (الداعمة ذاتيًّا)، والتي تمتاز بالمُرونة العالية، والصلابة في آنٍ واحد، فهي مُصمَّمة على أسس قوانين حديثة، وقد اعتمد المعماريُّ الموصليُّ على إحداث تقعُّرات عميقة داخل جدار المِئذنة، مُستفيدًا من الحواف كهيكل، وبذلك أُتيح للتقنية المعمارية المذكورة التحفُّظ على سرِّ تَحدُّب المنارة وصلابتها، وعدم انهيارها، رغمَ مَيْلها.
وعلى الرغم مِن مرور 834 عامًا على تشييدها، إلاَّ أنَّها كانت ما تزال محافظةً على دقة هندستها الجميلة، بنقوشها البديعة التي تُشكِّل آيةً في الفنِّ المعماريِّ الإسلاميِّ، ومَعْلَمًا بارزًا من معالِمها، إلاَّ أنَّ السنين الطوال أخذتْ منها الكثيرَ؛ لتبدوَ في السنوات الأخيرة مُتعَبة وهي تُعاني مِن الإهمال، وقد نالتِ التصدُّعات والتشقُّقات قدرًا كبيرًا مِن جمالها؛ قبل أن تطالها أيدي الدمار و خراب الاستعمار، ففي الحادي والعشرين من حزيران/يونيو عام 2017م دمرت الحرب الجامع والمنارة وأخذت الحدباء و الذكرى الأجمل من ذاكرة الموصليّين. و هذا حال الاحتلال في كل زمان و مكان ..