[ALIGN=CENTER][COLOR=red]التوبة.. بين الديني و السياسي [/COLOR]
كثيرة هي المصطلحات الإسلامية التي اعتورها التحريف والتحوير والتلاعب - وللأسف الشديد- سواء أكان ذلك من باب التضخيم أوالتقزيم الذي وصل في حالات كثيرة حد إضعاف الدلالة بشكل فج، وربما صار مصير هذا المصطلح أو ذاك الإنكار والجحود المطلق أو التسفيه والتسخيف المستغرب أو.. حتى صرنا نسمع عن افتقار تراثنا الإسلامي للفكر السياسي والاقتصادي والاجتماعي و.. وصرنا عالة على الغرب في كل ذلك، ومن بين هذه المصطلحات التي نالها شيء من التشويه عبر تاريخنا الإسلامي مصطلح “ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” ومصطلح “الشرعية” و”الراعي والرعية” و”ولي الأمر” و”أهل الحل والعقد” و”البيعة” و”الولاء والبراء” و”البركة” و”عدالة التوزيع” و”الشورى” و”المصلحة المعتبرة” و”الضرورة” و”سد الذرائع” و... ومصطلح “التوبة” الذي يطرق مسامعنا بين الفينة والأخرى، خاصة في مثل هذه الأيام ونحن نعيش بواكير شهر رمضان المبارك، إذ يتحدث عنها الوعاظ والخطباء غالباً في إطار الترغيب للعبد بترك المعاصي الفردية ذات الصلة المباشرة بعلاقة الإنسان “المخلوق” بـ “خالقه” الرب المعبود الرحيم الودود، وقد تتسع دائرة دلالة المصطلح لتشمل علاقاتنا الواجبة المحدودة بمن حولنا من بني الإنسان كالوالدين والزوجة والأولاد والأقارب والجيران والإخوة و.. في حين أن التوبة بشروطها المعروفة أشمل وأعم من ذلك بكثير فهي تُوجِب على راغب إعلانها والاستقامة على الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، قيامه بتغذية راجعة وكاملة لسجل أعماله وأقواله ومعتقداته وتصوراتها، وهذا لا يتوقف عند الجانب التعبدي في حياة الإنسان -كما يظن البعض- بل يمتد ليشمل توجهاته السياسية، وتحليلاته اليومية، وسلوكه الاقتصادي، وعلاقاته الرسمية والشعبية، ومساجلاته الثقافية، وصداماته الحياتية.. ليس هذا فحسب بل توجب التوبة الحقيقية “الندم على ما فات، وإعلان البراءة منه، وعقد العزم على عدم العودة إليه، ينضاف إلى هذا وذاك التحلل من مظلمة الآدمي”.
إن الأحداث الثورية في بلادنا العربية جعلت للسياسيين والمفكرين والقياديين والكتاب المثقفين حضورهم القوي وتأثيرهم الفاعل على شرائح عديدة في المجتمعات القريبة منهم والبعيدة، وقد تكون الرؤى عند البعض منهم ما زالت تعلوها الضبابية، وربما كان من بعضهم الاستعجال، أو أن أحدهم اتبع الظن وقدمه فيما كتبت يمينه أو غرد به جهازه على أنه الحق المطلق، فساهم في تأطير معالم الفتنة، وشارك في تأصيل منهج الافتتان، مع أننا جميعاً نعلم خطورة المرحلة، وتحذير نبي الأمة عليه الصلاة والسلام من الانزلاق في براثن الفتن، حين تختلط على الإنسان الأوراق، وتتعدد السبل، ويلتبس الحق بالبطل فعن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُنَا أَنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ الْهَرْجَ. قِيلَ: وَمَا الْهَرْجُ ؟ قَال: الْكَذِبُ وَالْقَتْلُ. قَالُوا: أَكْثَرَ مِمَّا نَقْتُلُ الْآنَ؟ قَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ بِقَتْلِكُمْ الْكُفَّارَ، وَلَكِنَّهُ قَتْلُ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، حَتَّى يَقْتُلَ الرَّجُلُ جَارَهُ، وَيَقْتُلَ أَخَاهُ، وَيَقْتُلَ عَمَّهُ، وَيَقْتُلَ ابْنَ عَمِّهِ. قَالُوا: سُبْحَانَ اللَّهِ! وَمَعَنَا عُقُولُنَا؟ قالَ: لَا، إِلَّا أَنَّهُ يَنْزِعُ عُقُولَ أَهْلِ ذَاكَ الزَّمَانِ، حَتَّى يَحْسَبَ أَحَدُكُمْ أَنَّهُ عَلَى شَيْءٍ وَلَيْسَ عَلَى شَيْءٍ).
فإلى من يحسبون أنهم على شيء.. دعوة مفتوحة للمراجعة الصادقة، وما يدري الإنسان فرب كلمة كان فيها سلامة أمة، وقد يكون العكس، “والله أشدّ فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه، من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة، فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فآيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلّها، وقد آيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثمّ قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربّك، أخطأ من شدّة فرحه”.
نعم إن على الحق لنور؛ سواء في مضمار العقيدة، أو السياسة أو الاقتصاد أو.. كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه لمريديه، ولكننا أمة اعتادت وللأسف الشديد أن تعرف الحق بالرجل مع أن الرجال هم الذين يعرفون بالحق، وألفت التصنيف، وهوت الجرح والقدح والنقد والتأويل.
السياسي والاقتصادي والعسكري سواء أكان مفكراً أو متعاطياً أو متعاطفاً أو أكثر المسلمين اليوم بحاجة لتوجيه الدعوة له عله أن يعلن توبته الصادقة بدلاتها الواردة أعلاه، وكم نحن جميعاً بحاجة ماسة في مثل هذه الظروف الصعبة التي نمر بها لتكرار الدعاء المؤثر عن الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا إتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه”، دمتم بخير، وشهر مبارك، وإلى لقاء والسلام. [/ALIGN]
[COLOR=blue]الدكتور / عثمان بن صالح العامر
" صحيفة عين حائل الاخبارية "[/COLOR]