[ALIGN=CENTER][COLOR=red]دراسة علم الأدوية النفسي [/COLOR]
نجد من الضرورة بمكان قبل أن نشرع في دراسة علم الأدوية النفسية أن نشير إلى بدايات علم الأدوية بشكل عام، إذ أن علم الأدوية النفسية يُعد علماً حديثاً مقارنة بتناول العقاقير في مجالات الطب المختلفة.
تتميز الخبرة الإنسانية بشكل عام من الناحية الانفعالية بأربعة أنواع من المشاعر التي تحدث عندما نواجه موقفاً محدداً في البيئة التي نعيش فيها. فنحن ينتابنا الخوف من الأشياء التي لا نفهمها، والقلق في مواجهة ما يريبنا أو يلتبس علينا، والاكتئاب عندما نخفق في تحقيق أهدافنا، والفرح عندما ننجز طموحاتنا. والحقيقة أن هناك العديد من المركبات التي يمكنها أن تغير من العلاقة بين مشاعرنا والبيئة.
وتاريخياً نجد الإنسان وقد استخدم من تلقاء نفسه العديد من المواد التي وجدها منتشرة في البيئة من حوله، بهدف تغيير حالاته السلوكية والانفعالية وتعديلها. فمنذ فجر التاريخ حاول الإنسان أن يعالج نفسه بنفسه، واستخدم عبر تاريخه الكثير من الأعشاب، والنباتات بل والأحجار والمعادن، أو قرن غزال أو مخلب حيوان أسطوري والأمثلة على ذلك كثيرة.
ففي الشرق استخدم الإنسان الشاي والأفيون، وفي الغرب استخدم التبغ والقهوة والخمور. وكل مادة من هذه المواد لاقت ترحيباً واحتراماً وتقديراً من كل ثقافة نشأت فيها، إلا أن كل حضارة وضعت أيضاً الخطوط العريضة التي تنظم تداول هذه المواد. كما أن هناك تاريخاً طويلاً من المعالجات الشعبية لبعض الأمراض، اعتمدت غالباً على ما توفر في هذه المناطق من أعشاب تبين أثرها الطبي سواء على الحالة الجسمية أو النفسية والسلوكية. ونحن نملك الآن المئات من العقاقير التي تغير السلوك سواء كانت مستعارة من الطب الشعبي Folk medicine أو تم استخلاصها وتصنيعها من المواد الأولية. ومعظم هذه المواد تم اكتشاف تأثيراتها الجسمية أو النفسية بالصدفة، ومع تطور تقنيات البحث والعلوم الكيميائية قام الإنسان بتصنيع العديد من العقاقير في ضوء دراسته للعلاقة بين العقار وكل من السلوك وكيمياء المخ.
وهناك مصادر قديمة للأدوية توجد لدى كل شعوب العالم القديم، في الصين ومصر القديمة والإغريق والبطالمة والرومان والعرب. ففي الصين عرف الصينيون القدماء التداوي بالأعشاب والنباتات الطبية، وكان علماؤهم يجربون تأثير الأدوية على أنفسهم دون تجربتها أولاً على الحيوان. ويظهر ذلك في منهج مؤسس علم الصيدلة الصيني، شن تونج (القرن 22 ق.م) الذي ألف كتاب الصيدلة الصيني المشهور: "بن تساو" ، كما اكتشف تأثير نبات "شانغ شانج" وهو نبات " الإفيدرا" المنشط والمعرق، والذي نستخلص منه الآن مادة الإفيدرين Ephedrine. ولم يقتصر الصينيون على الأعشاب الطبية فقد استخدموا أيضا أدوية مفردة من أصل حيواني أو معدني، وكانوا ينقعون الأعشاب الطبية في الماء أو يخمرونها، واستعملوا منها المراهم والضِّمَادات الطبية، كما استخدموا معها الحمامات الساخنة والباردة والتدليك، وقسموا العقاقير النباتية إلى ثلاثة أقسام: الحلو لتغذية العضلات، المالح لتغذية العروق، والمر لتغذية الجسم. وأعطوا أهمية كبيرة للأدوية المفردة، وتجنبوا الأدوية المركبة، وتبادلوا فيما بعد المعلومات الطبية مع المسلمين.
أما في مصر القديمة فقد احتكر الكهان ممارسة الطب والصيدلة في معاهد خاصة ملحقة بالمعابد كانت تسمى " بير عنخ" أي " بيوت الحياة"، وكانت تُدرس في هذه المعاهد العلوم والنباتات الطبية من حيث صفاتها وزراعتها وأنسب الأوقات لجمع العقاقير منها. وكان المصريون يقومون بتحضير أدويتهم من النباتات البرية المزروعة في مصر وفي البلاد من حولها، وكانت لهم الكثير من البعثات منها تلك التي أرسلتها الملكة حتشبسوت لتجوب البلدان المحيطة لجمع النباتات الطبية والعطرية وزراعتها في مصر. ويعد أمحوتب واحداً من أشهر أطباء وصيادلة مصر القديمة في القرن الثلاثين قبل الميلاد. وقد سجل المصريون القدماء خبرتهم بالأدوية على جدران المعابد والقبور وأوراق البردي، ومن أشهر هذه البرديات: بردية ايبرس (القرن 16 ق.م)، بردية كاهون (القرن 19 ق.م)، وقد تحدثت هذه البرديات عن نباتات طبية عديدة تنمو في أرض مصر أو تستورد من الصومال والجزيرة العربية والحبشة. ومن العقاقير التي استخدمها قدماء المصريين وورد ذكرها في بردياتهم عقاقير من أصل نباتي كالأنيسون (الينسون) وبذر الكتان، والخروع، والبصل، وبذر الخس، والثوم، والخشخاش، والزعفران والشمر، الفجل وقشر الرمان. كما استخدموا عقاقير من أصول حيوانية كغدد الثور ومرارته، وعسل النحل، ولبن الحمار. إضافة إلى العقاقير ذات الأصل المعدني كالحديد والزرنيخ والحجر الجيري وخلات الرصاص وكبريتات النحاس والملح (كلوريد الصوديوم).
وقد استفاد الإغريق من تراث قدماء المصريين والبابليين وسائر شعوب العالم القديم في التداوي بالأدوية المفردة بشكل خاص، والمركبة بصفة عامة. وقد اعتبروا الثعبان رمزاً للحياة والحكمة والشفاء، مثلما اعتبر المصريون ثعبان الكوبرا رمزاً لها. وكان العشابون يجمعون الأعشاب العقاقير الطبية في جنح الظلام، وفي أول الشهر القمري، وفقا لقواعد خاصة بقلعها من الأرض. ومن أشهر علماء الأدوية المفردة عند الإغريق أبقراط (460 -337 ق.م) الملقب "أبو الطب" وثيوفراستوس (387-317 ق.م) "أبو النبات" وأرسطو (384-223 ق.م) "المعلم الأول"، وديسقوريدس وجالينوس وغيرهم. واستفاد الرومان من حصاد الأدوية المفردة لدى الإغريق وقدماء المصريين والبابليين والبطالمة عن طريق مدرسة الإسكندرية التي انتقلت معارفها إلى روما. واشتهر من الأطباء المعالجين بالعقاقير المفردة: "كانو واندروماك" (20-70 ق.م) و "ديسقوريدس" (6-50 ق.م) المعروف بـ (أبو العقاقير)، وله كتاب باسم الحشائش ذكر فيه ما يزيد عن 500 عَقّاراً نباتياً ، "وجالينوس" أبو ا لصيدلية (130-201ق.م)، وله 98 كتاب في الطب والصيدلة، والذي صنف الأدوية إلى ثلاث أصناف: بسيطة ومركبة، والمقيئة والمسهلات والسموم.
أما العرب فقد كانوا أول من أطلق على علم الأدوية مصطلح علم الصيدلة الذي كان معروفاً من قبل في العصور الوسطى بعلم العقاقير وعلم الأقربازينات Pharmacopeia، وارتبطت هذه التسمية بتجارة العطارة، وأسموا العامل بهذا العلم الصيدلي أو الصيدلاني، ومن ثم يعد العرب أول المؤسسين الحقيقيين لمهنة الصيدلة، فكانوا أول من قام بتركيبات الأدوية بصورة دقيقة وفعالة، وأول من أنشأ المدارس لتحضير الأدوية وتحديد أماكن بيعها، بل وافتتحوا الصيدليات العامة في عهد الخليفة المنصور في أواخر القرن الثامن للميلاد. ومن أكثر علماء المسلمين أثراً في حقل الصيدلة داوود الأنطاكي صاحب كتاب "التذكرة" ، والغافقي، والأدريسي، والبيروني، وأبن النفيس، والرازي وابن الطبري، وابن سينا صاحب الكتاب الشهير (القانون في الطب)، وابن البيطار صاحب كتاب " الجامع لمفردات الأدوية والأغذية" والذي يعد واحداً من أكثر الكتب العربية شهرة في مجال علم العقاقير الطبية. وقد ولد أبن البيطار في "ملقا" بأسبانيا عام 1197 ودرس الطب والصيدلة في أشبيلية. وفي عام 1219 بدأ رحلة كانت وجهتها مصر، وسورية، ووادي الرافدين بالإضافة إلى أجزاء من الجزيرة العربية. وقد جمع العديد من النباتات ذات العلاقة بمجال علم الصيدلة، وقد توفي في دمشق في عام 1248.
وفي القرن الثاني الهجري / الثامن الميلادي أستطاع المسلمون أن يحصلوا على الكثير من الكتابات التي تتعلق بالنباتات والأعشاب الطبية، وترجموا هذه الكتب إلى اللغة العربية بعد أن أضافوا إليها الجديد من الأدوية المفردة كالراوند، والسنامكي، والجوز المقيء، وبخاصة على يد كل من الرازي و ابن البيطار حيث وصل عدد قائمة الأدوية المفردة على يدي ابن البيطار إلى 145 دواءً مفرداً معدنياً، و1800 دواءً نباتياً، و130 دواءً حيوانياً. ويعتبر العرب أول مَن استعمل نبات السكران وهو نبات سام يحتوى على مادة شديدة السمية هي الإستركنين Strychnine، ولم يتمكن العلماء المحدثون من عزل هذه المادة من ذلك النبات إلا في القرن الثالث عشر الهجري / التاسع عشر الميلادي. كما استعملوا نباتات الأكونيت Aconite والقنب Cannabis والإرجوت Ergot كمسكن للألم، وهم أول مَن استعمل الأفيون كمنوم ولتسكين الألم وإيقاف السعال ومنع الإسهال، كما استعمل العرب البصل لمعالجة أمراض الصدر، والثوم لمعالجة الديدان وأمراض المعدة، والتين لمعالجة الإمساك.
وقد عرف نبات الأفيون في العالم الإسلامي من خلال الترجمات اليونانية. كما انتقلت نبتته عن طريق التجارة مع الهند، واستخدمه الأطباء المسلمون منذ القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، كما ذكره داود الأنطاكي في كتابه التذكرة، ووصفة ابن الجزار في كتابه" زاد المسافر" في صفة دواء يسهل النوم.
والحقيقة أنه طالما وجد نبات له آثار نفسية طالما كان هناك من يستخدمونه من الأفراد للحصول على اللذة والشعور بالسعادة. وتخبرنا قصص التاريخ المسجلة عن وصف العديد من النباتات ذات التأثير في الحالة النفسية، ومن أكثر هذه النباتات نبات ست الحسن Belladonna والحشيش Cannabis والأفيون Opium وإصبع العذراء Digitalis. وكانت خلاصة نبات ست الحسن أو ما يعرف الآن باسم الأتروبين Atropine من المواد المعروفة بسميتها وكانت استخدامها منتشراً من روما إلى الهند في العصور القديمة، ومع ذلك كانت النساء يستخدمنها كمادة تجميلية حيث كن يضعن بعض قطراتها المخففة في عيونهن لتوسيع حدقة العين، ومازال هذا الاستخدام شائعاً حتى الآن ولكن من قبل أطباء العيون عند فحصهم لقاع العين.
ومع بداية القرن السادس عشر الميلادي انتشر استخدام الشاي والقهوة في أوربا وبلاد العرب باعتبارهما مادة علاجية، الأمر الذي أدى إلى ظهور المقاهي وانتشارها. يضاف إلى ذلك نبات التوباكو Tobaco الذي اكتشفه كولومبوس في أمريكا وأحضر بذوره إلى أوربا، واستخدم كمادة علاجية أيضاً، وتم استخلاص المادة الفعالة فيه والتي سميت بالنيكوتين Nicotine نسبة إلى جان نيكوت J. Nicot سفير فرنسا في البرتغال، واستخدم في علاج أمراض الرئة.
وفي عام 1820حاول الصينيون الحد من انتشار استخدام مادة الأفيون التي عرفت منذ عصور قديمة لأغراض العلاج والمتعة وتخفيف الآلام، وجلب النوم وتخفيف حدة الأرق والاكتئاب، ولكن أصبح استخدام هذه المادة يمثل تهديداً للمجتمع نظراً لما سببته من إدمان الأفراد عليها.
وفي عام 1874 تم تخليق الهيروين Heroin من الأفيون، واعتبر آنذاك أقل خطراً من الأفيون أو المورفين، و بدأت شركة باير في تسويق هذا المنتج الجديد عام 1896، وجاءت تسميته بالهيروين من اعتباره بطل الأدوية Hero. أما مادة الكوكايين Cocaine فقد استخلصها بابلوا مانتيجازو P. Mantegazzo في عام 1859 من أوراق نبات الكوكا، وكتب عن تأثيراتها المدهشة كمادة تزيل الألم والشعور بالتعب والإجهاد، وتخفف الاكتئاب. وقد أشار العالم النمساوي فرويد إلى الآثار التخديرية لهذه المادة. وذاع استخدام المادة بعد ذلك كجزء من تركيبة الشراب الشعبي في أمريكا والمعروف بالكوكاكولا، وكان هذا المشروب يحتوي ما نسبته 60 مللجرام من الكوكايين لكل 8 أونصات، ولكن في عام 1914 وبعد حدوث العديد من حالات الوفيات نتيجة لتناول كميات كبيرة من الشراب أصبح استعماله خروجاً على القانون.
أما عقار الأمفيتامين Amphetamine قد كان أو لدواء تخليقي يتم تصنيعه واكتشافه عام 1887، وشاع استخدامه كمادة منبهة، بل إنه اُستخدم في الحرب العالمية الثانية كأحد المنشطات التي يستخدمها الجنود للتغلب على التعب والسهر والإجهاد.
- تاريخ علم الأدوية النفسية:-
يعد علم الأدوية النفسية أو سيكوفارماكولوجي Psychopharmacology علماً حديثاً نسبياً إذا ما نظرنا إليه كعلم محدد المعالم وذي أسس موضوعية، فعمره قد تجاوز الخمسين عاماً بقليل. وترجع البدايات الصحيحة لهذا العلم إلى عام 1949 حين أشار الطبيب الاسترالي كاد Cad إلى أثر أملاح الليثيوم Lithium salts في علاج حالات التهيج التي تصيب مرضى الذهان Psychotic agitation. وقبل هذا التاريخ امتدت معرفة الإنسان بالآثار الطبية للأعشاب لآلاف السنين، سواء في مجال الطب بعامة أو في مجال الحالات النفسية بخاصة، ولكنها كانت من منطلق الاكتشاف بالصدفة أو التجربة والخطأ.
وكلمة سيكوفارماكولوجي كلمة مكونة من مقطعين: سيكو بمعنى نفسي، وفارماكولوجي بمعنى علم الأدوية، وهذه الكلمة الأخيرة تتكون من مصطلحين لاتينيين هما: فارماكون Pharmakon وتعني الدواء أو طب، وكلمة لوجوس Logos وتعني العلم. ومن ثم تكون الكلمة في مجملها تعني علم الأدوية النفسية، أو العلم الذي يتعامل مع الأدوية وآثارها وطبيعتها وطرق تحضيرها وطرق تناولها. وقد عرًف أوسوالد شميدبيرج O. Schmeidberg (1838-1921) علم الأدوية بأنه علم تجريبي يدرس التغيرات التي تحدثها المواد الكيميائية في جسم الكائن الحي، سواء استخدمت هذه المواد لأغراض علاجية أو لغير ذلك. وفي سياق هذا التعريف فإن كلمة سيكوفارماكولوجي تعني علم الأدوية النفسية، أو العلم الذي يتعامل مع العقاقير التي تؤثر على الحالة النفسية أو الوظائف النفسية للفرد.
وفي مقابل علم الأدوية النفسية يوجد علم آخر وثيق الصلة به وهو علم الأدوية العصبية أو نيوروفارماكولوجي Neuropharmacology، والذي يتناول تأثير العقاقير على النسيج العصبي في الجسم. ودراسة هذا العلم هي الأساس لدراسة علم الأدوية النفسية حيث تستخدم مبادئه في تقييم تأثير العقاقير في الطب النفسي، وفي دراسة علم الأعصاب الحيوي أو النيوروبيولوجي Neurobiology.
ويُعد موريو Moreau (1804-1844) رائداً في العصر الحديث في مجال استخدام العقاقير للتحكم في السلوك المرضي، فقد استخدم مزيجاً من الحشيش والقهوة لعلاج هذه الاضطرابات، واستمر الموقف على هذا النحو حتى عام 1918 حين استطاع فون جوريج V. Jauregg الحاصل على جائزة نوبل في مجال الطب النفسي، أن يستخدم العقاقير المستخدمة في علاج الملاريا لعلاج المرحلة الثالثة من مرض الزهري Syphilis (أحد الأمراض الجنسية المنتشرة في ذلك الوقت)، والذي يصيب الجهاز العصبي ويمر بعدة مراحل على مدة سنوات، وتكون أعراضه في المرحلة الثالثة والنهائية أعراضاً عقلية.
وفي عام 1832 تم تصنيع مادة الكلورال هيدرات Chloral Hydrate التي ظلت تستخدم إكلينيكياً كمادة مهدئة ومنومة لمدة تزيد عن القرن. وفي عام 1862 تم تصنيع حمض الباربيتيوريك Barbituric acid الذي اكتشفه الطبيب الألماني باير، والذي اشتقت منه بعد ذلك الباربيتيورات واستخدمت لأول مرة في الطب عام 1905 لعلاج الحالات النفسية كالأرق والقلق، كما استخدمت كمادة مخدرة في العمليات الجراحية.
وفي عام 1886 أقترح لانج Lang استخدام أملاح الليثيوم في علاج حالات الهياج التي تصيب بعض المرضى، وبعد ذلك بعدة سنوات (1948) لوحظ مدى تأثير هذه الأملاح على أعراض مرض الهوس Mania واستفاد المرضى منها استفادة كبيرة، حتى أنها مازالت تستخدم حتى الآن في علاج هذه الأعراض، وفي الوقاية من حدوث نوبات انتكاس لهؤلاء المرضى.
وفي عام 1931 اقترح كل من سين وبوز Sen & Bose استخدام قلويات نبات الروالفيا Rouwalfia alkaloids في علاج الحالات العقلية. وجدير بالذكر أن الطبيب البرتغالي جارسيا دي أورتا G. De Orta قد أشار في مذكراته التي كتبها في بداية القرن السادس عشر، إلى تأثير أحد الأدوية التي تعامل معها لأكثر من ثلاثين عاماً في الشرق الأقصى. وهذا الدواء تم استخلاصه من جذور نبات روالفيا سيربنتينا Rouwalfia Seprntina الذي تعود تسميته إلى الطبيب وعالم النبات الألماني ليونارد روالف الذي جاب أنحاء العالم لدراسة النباتات الطبية.
وقدم ساكيل Sakel عام 1933 ما عرف بالعلاج بالإنسولين Insulin therapy الذي انتشر كطريقة علاجية عرفت باسم العلاج بغيبوبة الإنسولين Insulin coma therapy في أربعينات القرن الماضي. وفي عام 1938 قدم سيرليتي Cerelti العلاج بالصدمات الكهربية التي استخدمت ومازالت على نطاق واسع، وتُعد أحد الطرق الفعالة في علاج الاضطرابات الذهانية بشكل عام، ونوبات الاكتئاب بشكل خاص، خاصة تلك المصحوبة بميول ورغبات انتحارية عالية.
وفي عام 1952 استطاع علماء الكيمياء في سويسرا استخراج مادة الريزربين Reserpine من نبات الورالفيا، وكان لها تأثير واضح في علاج الفصام. وفي نفس العام استطاع كل من شاربنتيه ولابوريه Charpentier & Labortit في فرنسا تصنيع مادة الكلوروبرومازين Chloropromazine وهو المشتق الأول من مشتقات الفينوثيازين Phenothiazine المستخدمة بنجاح في علاج الاضطرابات الذهانية. وقد استطاع العلماء باستخدام هذه المادة الفعالة أن يوقفوا علاج هذه الاضطرابات بالجراحة النفسية التي كانت سائدة في تسعينات القرن التاسع عشر، بل إن هذا العقار أزاح أيضاً طريقة العلاج بغيبوبة الإنسولين، التي صارت مجرد تاريخ في هذا المجال. وفي عام 1957 ظهرت مضادات الاكتئاب التي تلاها ظهور عقاقير البنزوديازيبين Benzodiazepines عام 1960 والتي استخدمت ومازالت حتى الآن على نطاق واسع في علاج اضطرابات القلق.
والجدير بالذكر أن التغيرات البيوكيميائية والفسيولوجية الكامنة وراء الاضطرابات النفسية ظلت لسنوات طويلة غير معروفة، وكان استخدام العقاقير في علاج هذه الحالات في بداية الأمر مجرد طريقة تجريبية يتم من خلالها اكتشاف التأثيرات الدوائية لهذه المواد دون التعرف على طبيعة الكيفية التي تعمل بها أو طبيعة الخلل الذي تقوم بإصلاحه. ولكن يكفي القول بأن استخدام هذه العقاقير ساعد على تحرر العديد من المرضى العقليين خارج أسوار المستشفيات العقلية، وسمح لهم بممارسة حياتهم الطبيعة وسط المجتمع.
- أهمية دراسة علم الأدوية النفسية:
بعد هذه النبذة الخاصة بتاريخ علم الأدوية بشكل عام، والأدوية النفسية بشكل خاص، نجد سؤالاً يطرح نفسه على أفكار دارسي علم النفس، ألا وهو " هل هناك ضرورة من أن يدرس طالب علم النفس ذلك الفرع من العلم الذي ينتمي لدراسة الطب بشكل عام، والطب النفسي بشكل خاص؟ إن الإجابة على هذا السؤال تأتي بالإيجاب، ذلك لأن طالب علم النفس يدرس السلوك الإنساني في سوائه ومرضه، وعلم الأدوية النفسية يدرس تأثير العقاقير على السلوك أيضاً، ومن ثم تصبح العلاقة بين دراسة السلوك ودراسة ما يؤثر عليه علاقة وثيقة تحتم على دارس السلوك أن يتعمق في دراسة هذه العلاقة.
إن دارس علم النفس يتناول من بين ما يتناوله بالدراسة مادة علم النفس الفسيولوجي التي يتعرف من خلالها على الأساس البيولوجي للسلوك الإنساني بشكل عام من حيث النواحي التشريحية والبيوكيميائية التي تكمن وراء هذا السلوك والوظائف النفسية بشكل عام. كما يدرس الطالب أيضاً علم النفس الإكلينيكي الذي يتعرف من خلاله على المظاهر المرضية المختلفة التي تصيب السلوك وتأخذ شكل مجموعات من الأعراض التي تشكل فئات تشخيصية مختلفة يتم من خلالها تصنيف الأمراض النفسية. وأخيراً يقوم الطالب بدراسة علم النفس المرضي الذي يتعرف من خلاه على أسباب الأمراض النفسية بيولوجية كانت أو نفسية أو اجتماعية.
وبعد هذه المعرفة المتكاملة يصبح لزاماً علينا في محاولة الفهم الكامل لطبيعة السلوك المرضي أن نتعرف على كيفية علاجه سواء كان علاجاً دوائياً أو علاجاً نفسيا أو سلوكياً، ولذلك فمن المحتم علينا إذا أردنا أن نكمل الصورة أن نتعرف على الأسس التي يقوم عليها تأثير العقاقير على السلوك سواء تناول الفرد هذه العقاقير في حالته السوية فتركت عليه مجموعة من الآثار التي تغير هذا السلوك وتغير من وظائفه النفسية، أو تناولها بهدف العلاج بغرض التأثير الإيجابي على ما يعانيه من أعراض فتزول ويعود إلى حالته الطبيعية.
بل إن الأمر لا يقتصر على ذلك، فكما هو معروف فإن الأخصائي النفسي يعمل كعنصر هام من أعضاء الفريق العلاجي الذي يضم كل من الطبيب النفسي وأخصائي العلاج بالعمل والأخصائي النفسي وغيرهم. ويلعب الأخصائي النفسي في هذا الفريق دوراً لا يقل أهمية عن أدوار باقي الأعضاء إذ عليه المساهمة في تحديد المرض وتشخيصه، أو تحديد المشاكل التي يعاني منها المريض من خلال الأدوات التشخيصية المختلفة التي يستخدمها لهذا الغرض (أدوات القياس النفسي). كما يقوم الأخصائي النفسي بتقييم حالة المريض أثناء العلاج وبعده لتحديد مدى التحسن الذي طرأ عليه من جراء أساليب العلاج المختلفة. كذلك يقوم بتحديد مستوى قاعدي من المعلومات عن المريض لاستخدامها في العملية العلاجية وعمل المقارنات اللازمة للسلوك قبل وبعد العلاج، بالإضافة إلى ما يقوم به من عمليات التنبؤ لتحديد احتمالات تعرض المريض للانتكاسة مرة أخرى. ولا ننسى الدور الهام الذي يقوم به الأخصائي النفسي في مجال البحث العلمي سواء من حيث دراسة بعض الفئات المرضية، أو دراسة الاعتماد على العقاقير، أو تصميم أدوات تشخيصية جديدة تتميز بدرجات عالية من الصدق والثبات.
كل هذه المهام السابق ذكرها والتي تقع على كاهل الأخصائي النفسي تجعل من الضرورة بمكان أن يدرس على ألأدوية النفسية وذلك لأسباب عديدة. إن استخدام الأدوات النفسية المختلفة يعتمد في كثير من الأحيان على مدى سلامة الوظائف النفسية والحركية لدى المريض، بل إن بعضها يعتمد أساساً على مدى التآزر البصري الحركي لدى المريض. ومثل هذه الوظائف تتأثر بما يتناوله المريض من أدوية تؤثر سلباً وإيجاباً على بعض هذه الوظائف، وبالتالي فإن الأمر يستوجب دراية الأخصائي النفسي ومعرفته بالأنواع المختلفة للأدوية، وتأثيراتها الفارماكولوجية على السلوك ليتمكن من تقدير الدرجات التي يحصل عليها المريض على الاختبارات المختلفة التي يتأثر أداؤه عليها بما يتناوله من أدوية، وذلك للحصول على درجات صادقة يمكن تفسيرها بصورة صحيحة. فقد يرجع ارتفاع الدرجة أو انخفاضها على الأداء والتي قد تشير إلى اضطراب الوظيفة، إلى أثر العلاج الذي يتناوله المريض أكثر من كونها اضطراباً في حد ذاته أو علامة من علامات المرض. وكل هذا يساعد على رسم صورة أكثر دقة عن حالة المريض ومدى تحسنه، وما طرأ عليه من تغيرات (إيجابية أو سلبية) نتيجة تناوله للعلاج، ومن ثم وضع التشخيص الدقيق للحالة، ورسم خطة علاجية أكثر نجاحاً.
وعلى ذلك فمن الضروري أن يتعرف الأخصائي النفسي على أنواع العقاقير المستخدمة في علاج الحالات النفسية المختلفة، وعلى المواد الفعالة في هذه العقاقير، وطريقة عملها، وطرق تناولها، والجرعات العلاجية المناسبة لها، والآثار الفارماكولوجية الناتجة عن استخدامها، والأعراض الجانبية الناشئة منها، وأعراض التسمم الناتجة من زيادة جرعاتها. وكل هذه التفاصيل هي ما يتضمنه علم الأدوية النفسية، ومن ثم يتضح لنا مدى أهمية دراسة هذا العلم في المجال الإكلينيكي لنستطيع القيام بواجباتنا نحو المريض على أكمل وجه.
وتبقى كلمة أخيرة نجد من الضرورة بمكان الإشارة إليها، وهي أن دارس علم النفس لعلم الأدوية النفسية لا يعني بالضرورة حصوله على القدر الكافي من المعرفة التي تؤهله أو تخول له وصف هذه الأدوية أو كتابتها للمرضى تحت أي مسمى. بل على الأخصائي النفسي أن يحترم الميثاق الأخلاقي لعمله ويحترم تخصصه وتخصص غيره من أفراد الفريق العلاجي. فوصف الأدوية النفسية هو من صميم عمل الطبيب النفسي الذي يرأس هذا الفريق، وهو الوحيد المصرح له بوصفها والمسئول عما ينشأ عنها من تأثيرات إضافة إلى مسئولياته الأخرى. ولا تأتي هذه الحتمية من فراغ، بل تأتي من خلال ما قام الطبيب بدراسته في علوم الطب المختلفة، وما اكتسبه من مهارات التشخيص والعلاج، ومعرفة مدى تداخل الأدوية فيما بينها من تأثيرات، ومن ثم فهو الوحيد القادر على تحديد المرض ووصف العلاج المناسب للمريض. ولا يجب أن ننسى حقيقة عليمة فيما يخص الأدوية النفسية ألا وهي أن المرض الواحد قد يوصف له أكثر من علاج، وأن الدواء الواحد لا يصلح في علاج نفس المرض بالنسبة للعديد من الأفراد، وأن ما يصلح لمريض قد لا يصلح لمريض آخر يعاني من نفس المرض، بل إن الأمر يتوقف على العديد من العوامل منها سن المريض، وحالته الصحية العامة، وما يتناوله من أدوية أخرى لعلاج أمراض مختلفة يعاني منها، وهي الأمور لا يستطيع تحديدها إلا الطبيب النفسي وحسب. [/ALIGN]
[COLOR=blue]جعفر عبد الكريم صالح
" عين حائل " خاص[/COLOR]