شعرالسجناء.... المرأة أنموذجاً
لقد أبدع الشاعر : مروان بن محمد الملقب بأبي الشمقمق عندما قال:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده – ولا الصبابة إلا من يعانيها
فصورة المرأة في الذاكرة العربية لها أبعادها وملامحها المتجددة والمتغيرة .. فهي حاضرة في الحل والترحال .. شامخة في خيال الشعراء، وذكريات الغرباء .. بل هي مصدر إلهام المبدعين في صنوف الأدب.
ولعل من أشد أنواع الغربة .. غربة السجن القاسية التي لا ترحم معذباً ولا مشتاقاً .. نهارها ذل وإهانة .. وليلها هم وكدر.. ولوعة واحتراق . ورغم اختلاف المسجونين في درجة تحمل السجن والتعذيب مظهرين تفاوتاً في إظهار التجمل .. والانضباط الداخلي .. ولكن سرعان ما يتهاوى جدار التوازن .. ويشق الحزن أكمامه ..
ولعل من أشد الناس حساسية وشاعرية متدفقه هم الشعراء حيث عبروا تعبيراً مؤثراً اتجاه المرأة (الأم- الزوجة – البنت – القريبة) مبرزين الخوف-والشوق-والغربة، والدعوة إلى الصبر .. كما استطاع شعر السجن أن يفرز صورة جديدة للمرأة الواقعية هي صورة في المرأة المعادية التي تقف موقفاً عدائياً تجاه الشاعر.
كما أسفرت الرمزية عن السجين الشاعر المتعلق بالأقارب والقبيلة والسلطة والرفاق موشحة بالاستنكار والتعجب والجزع التي تكشف الرفض الاجتماعي . كما شاع في السجناء أسماء نسائية لامعة تكررت بشكل ملفت حيث كانت (ليلى) رمزاً لعالم الغربة والبعد عن الديار (وسلمى) رمزاً للحب الصادق العفيف والوفاء .ومن خلال النصوص يتضح لنا أن الشعراء في غياهب السجن اهتموا بالصور البيانية كالتشبيه .. والاستعارة .. والكناية.
ومن هنا نستعرض بعض النماذج الموحيه بتلك العذابات ..والمثقلة بوخز الشوق .. وذروة العذاب .. خصوصا وأننا أمام شريحة تتمنع بحس مرهف يلوذ بإبداعه من واقعه المرير فهذا أبو فراس الحمداني يصور أمه أثناء سجنه تصويراً دقيقاً وبليغاً .. ومؤثراً:
لَوْلا العَجُوزُ بِمَنْبِجٍ | مَا خِفْتُ أسْبَابَ المَنِيّهْ |
وَلَكَانَ لي، عَمّا سَأَلْـ | ـتُ منَ الفدا ، نفسٌ أبيهْ |
لكنْ أردتُ مرادها ، | وَلَوِ انْجَذَبْتُ إلى الدّنِيّهْ |
وَأرَى مُحَامَاتي عَلَيْـ | ـهَا أنْ تُضَامَ مِنَ الحَمِيّهْ |
وعندما ننتقل إلى البنت نجد الشاعر نصيب الأصغر مخاطباً ابنته حجناء معلناً وصيته لها بالصبر :
لقد أصبحت حجناء تبكي لوالد | بدرّة عين قل عنه غناؤها |
أحجناء صبرا كلّ نفس رهينةٌ | بموت ومكتوب عليها فناؤها |
أحجناء أسباب المنايا بمرصد | فإلا يعاجل غدوها فمساؤها |
أحجناء إن أفلت من السجن تلقي | حتوف منايا لا يردّ قضاؤها |
لقد أصبحت حجناء تبكى لوالد .. استهلال يؤكد عمق الحزن .. إذ أن البكاء يكون ليلاً.. فكأن البكاء سرمدي عند ابنته من المساء إلى الصباح .. مكرراً نداءها (أحجناء) بالنداء القريب لقرب مكانتها ومحبتها لديه رغم بعد المكان . مذكراً إياها بدوره وصيته الذائع عندما كان طليقاً مقارناً بينه وبين أقرانه .. مع إظهار تفوقه عليهم.
أما الزوجة فقد شغلت الحيز الأكبر عند الشعراء فهذا الشاعر حجر بن مرثد سجين كسرى حيث تفجرت قريحته اتجاه زوجته قائلاً
كلبية علق الفؤاد بذكرها | ما إن تزال ترى لها أهولا |
فاقني حياءك لا أبالك إنني | في أرض فارس موثق أحولا |
وإذا هلكت فلا تريدي عاجزا | غسا ولا برما ولا معزالا |
واستبدلي ختنا لأهلك مثله | يعطى الجزيل ويقتل الأبطالا |
ير الجدير بأن تكون لقوحه | ربا عليه ولا الفصيل عيالا |
حيث أظهرت الأبيات شدة التعلق بزوجته متجاوزاً حد الذكريات مستغرقاً في ذاتيته الرمزية عندما طلب منها أن تبحث عن زوج غيره بعد مماته يحميها ويحافظ عليها ..
وهذا جحدر بن مالك الحنفي حبسه الحجاج وأمر بقتله .. فأحس بدنو أجله .. وتمنى لو اجتمع بزوجته قبل الفراق الأبدي ..
أليس الليل يجمع أم عمرو | وإيانا فذاك بنا تداني | |||
بلى وترى الهلال كما أراه | ويعلوها النهار كما علاني | |||
فما بين التفرق غير سبعٍ | بقين من المحرم أو ثمان | |||
وبعد استعراض تلك النماذج النازفة من قرائح أولئك الشعراء .. نجد أن صورة المرأة الرمز أكثر حضوراً من المرأة الواقع .. من خلال ترويض ظاهرة الطيف لإرضاء الذات .. محاولاً الحديث بلسانها بالإضافة إلى أن ذلك البوح جاء ترجمة للحظات انفعالية ، وتفسير لخوالج النفس .. تخلل ذلك ومضات حوارية.. رسمت معاناة وإبداع الشعراء (السجناء) ورصدت تجاربهم الحياتية التي غلب عليها ذروة العذاب النفسي والمعاناة الزائرة وراء القضبان.
4 pings