العمل الخيري...
إن العمل الخيري سلوك حضاري هام يتمثل في العطاء والبذل بكل أشكاله، ويمثل قيمةً انسانيةً ساميةً لا يمكنه السمو والابداع إلا في المجتمعات التي تنعم بمستويات متقدمة من الثقافة والوعي والمسؤولية، فله دورٌ بارزٌ وجليلٌ في تطوير المجتمعات والمساهمة في تنميتها ورافد مهم يدعم جهود الحكومات في عمليات البناء الاجتماعي والاقتصادي , فمن خلال المؤسسات التطوعية الخيرية يتاح لكل فرد يتمتع بثقافة البذل والعمل الفرصة للمساهمة في هذا البناء القائم, كما ينمِّي العمل الخيري الإحساس بالمسؤولية لدى المشاركين ويشعرهم بقدرتهم على العطاء وتقديم الخبرة والنصيحة في المجال الذي يتميزون فيه.
ولقد قامت الخدمات التطوعية الخيرية بلعب دورٍ كبيرٍ في نهضة الكثير من الحضارات والمجتمعات ونشر الأفكار عبر العصور.
وفي مجتمعاتنا الاسلامية يعتبر العمل الخيري من عقيدة الفرد وتجسيد لإيمانه التي عبرت عنه الآيات الكريمة والاحاديث الشريفة في أكثر من موضع نذكر منها:
يقول تعالى:" فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ " (سورة البقرة)
- "لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً " (النساء)
- " أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ" (الماعون)
يقول نبينا الكريم في حديثه الصحيح : "أحب الناس إلى الله انفعهم للناس " (رواه مسلم)
وقال صلى الله عليه وسلم :" الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو القائم الليل الصائم النهار "(متفق عليه)
-وقال صلى الله عليه وسلم :" مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى " (رواه مسلم)
وللأسف رغم ما نملكه نحن المسلمون من دوافع ايمانية وقيم مستمدة من ديننا الحنيف لا نزال قاصرين عن فهم هذا السلوك الحضاري على الشكل الأمثل الذي يحقِّق الغاية الكبرى منه, فإذا ما قارنا بين واقعنا وواقع الدول المتقدمة لوجدنا بَوناً شاسعاً في الوعي والابتكار.
لقد بات نجاح العمل الخيري ومؤسساته مقياساً وتقويماً لمستوى الأمم والأفراد والدول, بل أنَّ العمل الخيري ومؤسساته الناجحة يعتبر من أهم مقومِّات نجاح الإدارة للدولة الحديثة, وغدا عند الدول المتقدمة القطاع الثالث من قطاعات التنمية؛ بحكم ما يترتب على فعالية هذا القطاع من توازن سياسي واقتصادي واجتماعي حيث يشكل العمل الخيري مقوماً أساسياً من مقومات توازن ونجاح المجتمع والدولة بتواجد وقوة "مؤسسات العمل الخيري الأهلية"
لقد غدا في بلاد الغرب مفهوم العمل الخيري والتطوعي مرتبط بالتنمية الشاملة، من خلال الكثير من تلك الأعمال والبرامج التي تستهدف الإنسان وترقى به بدءاً بالفرد ثم الأسرة ومن ثم تمتد إلى المجتمع تلك الحلقات الثلاث المترابطة بمجموعها ومفرداتها. حيث يحتل القطاع الخيري حيِّزاً مهماً ومكانةً مرموقةً ويقدم خدماتٍ كثيرة في مجالاتٍ عدة. فالقطاع الخيري الذي تنتمي إليه المؤسسات الخيرية والمنظمات غير الربحية أصبح يشكِّل رقماً هاماً في المعادلة الاقتصادية في الكثير من البلدان الصناعية، وهو قطاع ثالث شريك للقطاعين الآخرين في عملية التنمية البشرية.
إذا لم يعد العمل الخيري مجرد جهودٍ فرديةٍ مبعثرة ٍهنا وهناك، بل صار نشاطاً اجتماعياً واعياً يعد الانخراط فيه مطلب وطني وإنساني, فالعمل الخيري يتطلَّبُ جهودَ المجتمع بأكمله, بدءاً من الاسرة مروراً بالمؤسسات التعليمية .وللحكومات دورها الفاعل في تشجيع هذا السلوك من خلال تقوية العلاقة مع هذه الجمعيات ليعطيها منعة تضمن لها استمراريتها، دون أن تؤثر على استقلاليته في اتخاذ القرار ,وذلك يحتاج سنَّ قوانين تحكم مستوى العلاقة وماهيتها.
فالأسرة عليها تشجيع العمل الخيري بين افرادها من خلال طبع حب الخير ومساعدة المحتاجين في قلوب ابنائها وعليها أن تنمي فيهم روح الجماعية وروح البذل والتضحية, وعلى القائمين على النظام التعليمي أن لا يغفلوا عن أهمية غرس هذا السلوك في قلوب الطلاب فبالتعليم النظري والتطبيق العملي يمكن لهذا المؤسسات أن تنمي بين الطلاب فن العمل الجماعي النافع الذي يعود نفعه للإنسان وللمجتمع وللوطن كله.
ولا نغفل دور المسجد والمؤسسات العامة والخاصة. فحين تتضافر جهود كافة كيانات المجتمع في زرع ثقافة العمل الخيري بين ابنائه حينها لن نبني إنساناً يعي هذه الثقافة الهامة فحسب بل نصنع الانسان الخلاق و المبدع المتفاعل القادر على ابتكار طرقٍ واساليبٍ جديدةٍ تتماشى مع تطور العصر وحاجات المجتمع, فلا يمكن أن تزيد من تفاعل الفرد لهذا العمل إن لم يكن واعٍ لأهمية هذا العمل ودوره الكبير في تنمية المجتمع. فحقيقة العمل الخيري وخططه يجب أن تكون باتجاه التنمية الشاملة كما فعل من سبقنا, فهو ليس جهوداً تبذل وحسب لإنقاذ مصاب أو علاج مريض أو أموال تنفق لسد حاجة محتاج بل إن خطة العمل الخيري يجب أن تكون أشمل وأنفع حين تكون في اتجاه التنمية وفي اتجاه بناء المجتمع فرداً و أسرةً,
ولا يمكن أن تبقى نظرتنا محدودة وقاصرة عن أهمية هذا العمل باقتصارها على الدور الخدمي والخيري الضيِّق الذي يحكم الأداء حالياً.ولهذا علينا استيعاب كما استوعبت الدول المتقدمة المعنى الحقيقي لمفهوم العمل الخيري لنتعامل معه بصفته الرافد المهم في المجتمع الذي يقوم بمشاركة الدولة في تحمل بعض الأعباء الإنسانية، التي لو تركت الدولة وحدها لحلها قد تسبب الكثير من الأزمات الإنسانية والاجتماعية والأمنية.
وأخيراً لا يسعنا إلا أن نقول.. علينا تربية ابناء مجتمعنا على هذا السلوك الحضاري كي تترسخ فيهم كل ميدان وعبر كل منبر و في كل مدرسة وجامعة ليغدو مجتمعنا أرضاً خصبةً و ملائمةٍ لاحتضان هذا الجمعيات الخيرية لتقوم بدورها على الوجه الأمثل, وليغدو العمل الخيري والتطوعي عادات سلوكية في واقعنا نساهم به في نهضة المجتمع .
بقلم : ركاد بن سحلي العوض
رئيس مجلس إدارة جمعية الشامة الخيرية بتربة حائل
عضو المجلس البلدي بتربة حائل .