أخذ يشير بقوة على صدرها ويتمتم بكلام أجوف غير مفهوم وبصوت أقرب للصراخ الغاضب والمستجير الخائف الذي ركن الأمل لمحطته الأخيرة ..وخلف تلك المحاجر الغائرة والشفاه اليابسة .."خلقت هنا في قلبك منذ الأزل ..فكيف تتركيني لتعبث بي الأيام ؟؟؟"
قالها وهو يمسك بتلك القصاصات المبهمة من الورق ، وبضع ريالات ممزقة يحملها بين يديه المرتعشتين ليقدمها قربانا لها .. فقط كي لاتبتعد .... لاتغادر ... لا يواريها السراب فتختفي ...لكنها جمعت شتات نفسها ، وأخذت معها ماتبقى من حياة مشتته لطفليها اللذان بدأ الشرود والضياع يعيش في نظرتهما للحياة ، تسمرت عينا ( ترف ) ب ( أحمد ) طويلا .. وهو يرجوها واليأس يعيش في صوته الضعيف البائس ، فدمعت عيناها المتعبتان بصمت قاتل فتمتمت " لأنني لازلت أحبك
أنا وطفلاك .. آن الأوان أن ننفصل ... تركته خلفها ورحلت خلف تلك الحياة المحطمة والمستقبل المجهول .. وهي ترجع بالذاكرة سنوات للوراء ..
كانا طفلين ، يلهوان معا ، جمعهما ذلك البيت الكبير .. الذي ارتسمت عليه قسوة القلوب ، وحياة متسلسلة من المشاكل بين والدها القاسي ووالدتها الضعيفة لجبروت زوجها وأخوات صغيرات يختبئن سريعا بمجرد سماع صوته يدخل مجلجلا ،، وعم يحمل صفات الطيبة والرحمة لأبنائه .. والضعف الشديد أمام زوجته وأخيه ، هذا هو والد أحمد ..عالمان متضادان تحت سقف واحد ، الطيبة والقسوة والحب والكره ، كان أحمد منذ صغره يضطر للهرب خوفا عند غضب عمه ، ويلجأ لوالده الذي لايحرك ساكنا ولابد من الطاعة العمياء والولاء المتعصب للعم القاسي وتقديم فروض الطاعة والولاء له ، وأم تستغل ضعف زوجها لتأخذ ما تشاء من وراء ستار القوة كعمه الجائر ..كبرا معا كأخوين ، يخاف عليها وتحترم وجوده ، رسمت لأحلامها شخصا أخر إعتنت برسم ملامحه وشخصيته المجهولة ، وعاش أحمد قصة حب مع إبنة الجيران وكم كانت أجمل لحظاته وهو يفترش الأرض ليتمدد عليها ويديه خلف رأسه وعينيه تسامران الليل والنجم ليتحدث طويلا لترف ببراءة عن حب حياته وعشقه الأبدي ولكن كان للعم ولأم أحمد كلمتهما وقرارهما ، فكان اختيار العم لقدرهما بمباركة والدة أحمد ، أحمد وترف زوجان ولا مجال للرفض أبداً ، تحدثت لوالدتها لتبلغ والدها برفضها ، فأحمد أخاها فكيف تتزوجه ، فتملصت الأم خوفا ترجو ابنتها ان توافق ، وتحدث لوالده مرات ومرات ليبلغ عمه ووالدته بالرفض ولكنه التزم الصمت وقال هما ادرى بمصلحتك ، وتم زواجهما وأيقنا انهما لم ولن يعودا أخوين أبدا بل زوجين فرضهما القدر وسطوة الجبابرة الأقوياء .. حاولا ان يتعايشا مع واقعهما المؤلم ، ورضخا لنداء الواقع ، فكانت صرخات ( خالد) بمثابة المنبه لطرد الأحلام والأمنيات الغابرة والمستحيلة ، كان خالد يعني رضوخ أحمد للواقع المرير وتوديع الماضي وجميع الأمال بعودته ، وانغمس في العمل والغياب كثيرا لينسى معاناته ، فعاشت ترف الوحدة واليأس بوجود زوج محب لها ، كم عانقت ستائر الليل لتجهش ببكاء مرير ونحيب طويل ، حاولت أن ترمي بأحزانها بعيدا وتقترب أكثر من زوجها ، تنازلت كثيرا عن شموخها وكبريائها بوجود زوج كان جسدا بدون روح ، يلهث باحثا كالمجنون عن معنى للسعادة ، للفرح ، الذي يفتقده ، حاول كثيرا ان يبتسم لكن ملامحه التعيسة كانت تخونه لترسم عبوس الواقع المؤلم والذي يرفضه بجميع مشاعره ، وفجأة تعالت صرخات أخرى لطفل أخر فكانت ( فرح ) هي الناقوس المدوي لخطر الزلزال القادم ، تمنت ترف الفرح المستحيل فسمتها فرح لانها تفتقد الفرح في حياتها ، فكان الضياع والشتات لأحمد الذي كره كثيرا هذا الواقع المفروض والملئ بالتناقضات المقيته ، انغمس كان يظنهم أصدقائه ، الذين وعدوه بسعادة أبدية عبر تلك السيجارة العجيبة ،ليغيب عن الوعي طويلا ، ويعيش لذة النسيان ، ومالبثت تلك السيجارة أن تفشل معه بتحقيق ذلك الغياب الكلي ليصبح احتياجه اقوى فكانت أبواب الجحيم تنتظره لتفتح على مصراعيها ترك عمله وبيته وعائلته ليطارد السراب الخادع فلجأ الى أنواع الحبوب المخدرة والإبر المغيبة والمسكرات المحرمة ... حاولت ترف انتشاله كثيرا ، لومته وعاتبته ، ونصحته ، وبكت أسفل قدميه ،ولكن ذلك الصديق والرفيق الذي تعرفه تحول إلى شبح مروع يفعل أي شئ ممكن من أجل تلك الخبائث التي أدمنها بل قد يقدم زوجته وطفليه قرباناً للشيطان لينال أحد تلك القاذورات التي يطلبها جسمه بقوه ، وسط غياب عقله وفكره فباع الاثاث والملابس ومجوهرات زوجته وامتدت يده كثيرا لضربها وتعذيب طفليه لتحقيق رغبته بالمال وباع اخيرا منزله ، فلجأت لوالدها ووالده لكن أحمد بنظرهما رجل ويعرف ما يفعل لعلها تجارة فاشله سينجح يوما بها فأي زوجة تتخلى عن زوجها في أزمته وهكذا تملص الأباء من أبنائهم بنية لايشوبها شك بأحمد ذلك الشاب العاقل ، ورجعت والحسرة تملأ قلبها فلا مال ولا وظيفة ولا سند ترتكز عليه ، الى أن صاح ضمير الأم ، وكيان الأنثى الممتهن داخلها برفض هذا الواقع فهي مع وحش كاسر وغاضب ، إستسلم لواقع مفروض وبعض العادات الباليه وتحديد وتسيير لحياته رغما عنه ، فابتعد عن الله كثيرا وترك الدعاء ، ولجأ للحرام والشياطين أكثر ، آن الأوان لأن تتوارى ترف خلف المجهول فيوما ما قد يكون طفليها ضحية إدمان والدهما أو تكون هي ضحيته ، إختفت طويلا لتعمل في كل مكان لتؤمن حياة كريمة لطفليها فهما ولدا وخرجا للعالم الحر ليستحقا الحياة والأمان والرحمة وليس الشتات والخوف والضياع ، كانت رغم الغياب القسري تسأل كثيراً عن أحمد وتتابع أخباره بل حدثت كثيراً من الأطباء عنه طلبا لمساعدتهم واستعانت بالمشايخ لتوجيهه ، دخل مستشفى الأمل مرات عدة ليستقبله أصدقاء السوء عند بواباته في رحلة للحرام ، إنهار والده الطيب عندما تيقن أنه مدمن وبكته والدته بكاء الموادع وكأن الأفق يلوح من بعيد برسم نهايته المأساوية في أحد الشوارع المظلمة وعند أحد مكبات النفايات وجد أحمد مكبا ومتقوقعا على وجهه ميت بجرعة زائدة ليختفي المجرمون الحقيقيون ، ويصبح هو المنتحر والقاتل لذاته والمدمر لجسده في عين العدالة والقانون .
احمد وترف وأمثالهما كثير ...
ضحايا مجتمع لا يرحم وضحايا عادات بعضها بالي لا ترفق بإنسانيتهم ، وكأنها من فروض الدين ، وكأنها من توصيات الرسول الكريم وضحايا قسوة أهل خافوا نظرة المجتمع وتمسكوا بخيوط واهية ، وقذفوا بفلذات أكبادهم نحو المجهول الممقوت .
أحلام ممزقه
وصلة دائمة لهذا المحتوى : https://www.aenalhaqeqah.com/articles/1341916/
23 pings
إنتقل إلى نموذج التعليقات ↓