ان الانسان ، كل انسان ، وفي كل عصر من العصور يعيش حياة اجتماعية ، والحياة الاجتماعية تقوم على التعامل والسلوك مع الاخرين ومثل هذا التعاون اوجب وجود قواعد وانماط للسلوك ترضى عنها المجتمعات وتقاليدها واصولها الاعتقادية او لا ترضى عنها ، وقد احتاج هذا التعامل الى التمييز بين الحسن والسيء ، بين الفاسد والصالح ، بين النافع والضار ، كما احتاج الى اصدار الاحكام على تصرفات الانسان بالخير والشر ، والحسن والسوء ، بالصلاح والفساد ؛ فالقصاص عدل ، والعفو احسان ، والاحسان افضل من العدل .
فالعفو من الاحسان والاحسان يحتاج الى تضحية ومجاهدة للنفس من المحسن وعدم الانقياد للنفس الامارة بالسوء والحيلولة بينها وبين الانقياد لاهوائها ورغباتها الضارة في الجشع المبالغ به جداً جداً ، لهذا رغب الله في الاحسان ببيان فضله وثوابه للتأثير على النفس الانسانية والتسلط عليها لاستساغة الاحسان وجعله من طبيعتها ، ان الاحسان الذي دعا اليه القرآن هو غاية ما تصبو اليه الانسانية لاقرار السلام والى نشر المحبة بين الافراد ( من اجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا ، ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا ) .. اي خير عميم يغمر الناس اذا سيطرت عليهم صفة المحسن العافي ؟ كما فعله كاظم الغيض الخيِّر شيخ العافين حمود بن طوعان السويدي الشمري) .. انهم احرى بان يحققوا : المجتمع الاسلامي الفاضل الذي طبّقه الاسلام في اول عهده ، ونحن نؤمن بان تحقيق آمالنا في الوسائل والاهداف معاً ليس امراً سهلاً ولكن الحزم في الاخذ بمبدأ العفو غير المشروط تعجيزياً .. وتعهد النفس ، ونفوس الكبار اولاً ، بتعويدها عليه واقناعها بجدواه تمهيدا للنجاح في نقله الى الصغار الذين نتعامل معهم ؛ هذا وحده هو الكفيل بان يغير ما بنا من سوء الى حسن ، ومن تخلف الى تقدم ومن شر الى خير ومن ضعف الى قوة ، لان قانون التغيير الأزلي " ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " ، والله غالب على امره ، محدث بعد ذلك امرا .
الرحمة رقة في القلب وإرهاف في الشعور وهي تستهدف الرأفة في الاخرين ، والتألم لهم وكفكفة دموعهم وتخفيف احزانهم ، والرحمة خلق انساني بل ديني اصيل فلا تنزع الرحمة الا من شقى ، .. لعل دعوتهم تستحيل الى هدوء هاديء في مطالبة الطرف الاخر ، وقد كانت نارا مضطرمة يتطاير شررها ويتأجج لهيبها ، يأتي لظاها على كل شيء من المال ، فاستحالت ، بعد التقنين ،باذن الله بردا وسلاما لا خطر له ولا شر فيه ولا خوف منه على احد .
انطلقت من ساحة المجتمع دعوة خير وشرارة نشاط يقظ نرجو ان لا تنطفي ابدا حتى تحقق اهدافها ، سعى سعاة الخير من قبيلة شمر بعدما تبزل مال الناس بديات ( ذات ارقام فلكية كبيرة جدا جدا ) ، هذا المسعى يدل على اننا ضقنا بموقف الانتظار والسلبية واننا عزمنا على ان نواجه تجار الدماء بالفكر الديني والحوار المثمر وتحمُّل الامانة قِبَلْ انفسنا وقِبَلْ الاجيال القادمة ، وارجو ألَّا يقتصر الدافع على هذه الحركة المباركة على التماس الوسيلة لحل القضايا حلاً عادلاً شاملاً رفيقاً ومراجعة موقفنا الحضاري على ضوء العصر ومتطلباته ارجو ان يكون التصميم على حل موضوع ديات القصاص الفلكية ترجمة عن اتجاه اقوى وأعمق نحو التقدم والنهوض في حياة افراد المجتمع ، ولا شك ان هذه الامة التي تدعو الى الخير وهي تجهد بدعوة الحق من اعظم الفضائل لانه لا قيام للباطل الا في غفلة الحق فما دام الدعاة الى الحق يجهرون به ويعملون على نشره فلابد ان يتوارى الباطل ويقهر ، ولا يتصور ان تنهض جماعة او امة الا اذا قام فيها دعاة الى الحق ينادون به واذا فقدت هذه الجماعةً كان ذلك إيذانا بزوال قوة الامة وتزعزع اركانها .. ان ما آلت اليه امور ديات القصاص من شر يدير الرأس من غرابة ويهز الناس كل الناس ويفجر الرثاء والأسى ، امثلة سخيفة ( عفوت وتنازلت عن القصاص مقابل عشرات الملايين ) ؛ اي عفوً او تنازل هذا ، بخً بخً ، وكأن الوطن لم يكفه ما به ، وما حل به من فقر ، فابتلاه بفئة من الناس لينهبوها بلا رحمة ، ويستغلوها اسوأ استغلال ثم يتركوها كما كانت فقراً ، فالزكاة صرفت لشخص واحد !! بدلا من مصارفها الشرعية .. على اي حال فالصورة قبيحة ولكنها برغم ذلك لا تدعو الى التشاؤم فما زال الداعون الى الخير يملأون الارض وما زال التقدم يشق طريقه بخطى ثابته ويجرف كل يوم تلاً من التأخر ، وما زالت البادية والحاضرة مدعوين الى حوار مثمر عسى ان ينقذ المجتمع من الافلاس والاختلال ويحقق قدراً من السمو يقي نصفه هلال الجوع والتأخر ويخلص النصف الاخر من الاحباط والعدم .
شدَّ ما تغيرت الظروف والاحوال وهي تتحول كل يوم من حال الى حال ، تراجعت قيمٌ وتقدمت قيمٌ ، تلاشت احلام وترعرعت آمال ، وإنْ نتابعها في هدوء مستعينين بضبط النفس والايواء في ملاذ الحكمة نذكر بعمق وحنان ونرفع اكف الثناء لاولياء القصاص العافين بلا تعجيز الذين عرفنا في رحابهم حقاً وصدقاً وايماناً .
سعود مشعان مناحي الدخيِّل
حائل في 1438/6/2هـ