سعود الطريفي في ذمة الله
ما احوجنا نحن الاحياء في ايام الناس هذه الى الاستكثار من ذكر الموت ، تندق به في صدورنا اعناق الجشع ، وتحف به على السنتنا قولة الحق ، ونتعثر به في مجتمعنا مواكب النفاق ، ثم ما احوجنا نحن الاحياء الى الاموات نؤبنهم فيسوقنا تأبينهم والثناء عليهم بما احسنوا من عشرة وبذلوا من جهد الى حسن الاسوة بهم واحتمال الاعباء من بعدهم
الى رحمة الله الشيخ سعود عقيل الطريفي ، آمنت عقول البشر اجمعين بان الموت مآل كل حي وبان المنية لا تجل جليلا ، وبان لكل جنب مصرعا ، وبان من بقي يسير الى الغاية التي سار اليها من مضى ، وبان الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الباخل المتشدد ، آمنا بهذا كله ايمانا لا تردد فيه ولا شك ولكنا لا نزال نرى ، كلما نزل داعي الموت بعزيز ، اصدقاء من يختلسه الموت وخلصائه وعارفي فضله يحزنون ويتألمون وقد يفرط بهم الحزن الى حد الهلع والجزع والحسرة ذلك لان النفوس تنسى قضايا العقل ، ولان القلوب لا تخضع للاحكام التي يخضع لها النظر والفكر ولان الذي فات من الأنس بالراحل والاطمئنان الى مودته وبره والخوف مما عسى ان يلقاه الباقي من الوحشة والوحدة وقلة راحة النفس الى غير من رحل ومما لعله يتفقده من رضى الخلق وطيب العشرة فلا يجده ، كل اولئك مما يثير كوامن الشجون ويبعث لوعات الاسى فتبدو على اسارير الأسوان في آهة يرسلها او دمعة يرقرقها ،
رحل عنا الفقيد الشيخ الانسان سعود عقيل الطريفي ، من اسرة لهم في العلم والدين باسق نباهة وجليل خطر ، وعندي ان كل من عرفه ادرك في سهولة ويسر انه حيال طراز من الرجال ترتاح النفوس لهم كما ترتاح الى الروضة الفاخرة والغدير الصافي وايقن انه قبالة انسان ممن مَنَّ الله عليهم بغامر من نعمه ، فالراحل عاش يحاول جهده ان يلتزم حدود الله وان يبتعد عن مناهي الله ، وليس مرد ذلك انه نشأ في اسرة لاعزيز عندها كدينها ، فحسب ، ولكن الاستمساك بعرى الدين ؛ والدين هداية وعصمة مركوز في خليقته السمحة ، وهو رجل يعطي النصفة من نفسه ويرى السعادة اجمل السعادة ان يرضى عن نفسه وفيه من اجل ذلك على نفسه صرامة وله على نزعاتها سيطرة ، لم يعرف الحقد والحسد والبغض ، والنفوس البشرية تعرفها ، ولكن عرف السرور بما يَسُرُ له صديقه وغير صديقه ، وعرف الود الخالص الصافي يبادله اهله وذوي صداقته وزمالته ، وعرف الاعتدال والقصد فيما ياخذ او يدع وزهد فيما ليس له وعرفه في كسبه الحلال وعرفه في تبسمه وتجهمه وعرف العزوف عن الكلمة النابية حين كان اميناً على المرضى ومديرا لمستشفى حائل العام لسنوات طويله فاذا ما اقتضاه واجب ما تقتضي ذلك ( امانه الواجب ) جنح الى ذلك في لباقة وترفع وألم به بالقدر الاقل الذي لا يفوت عليه صالحا ولا يترك في الوقت نفسه حرجا يتعذر التئامه ..
هكذا شأن الحياة استقبال فوداع وتفرق بعد اجتماع وسرور وهناء ثم عزاء وبكاء ، وتلك هي طبيعة الحياة ، وانه ليحز في نفوسنا حقاً ان نرى الموت يتخطف زملاءنا واصدقاءنا واحدا وراء الاخر وفي فترات متقاربة فما نكاد نكفكف الدمع على زميل راحل حتى نعود فنسكبه على زميل آخر ، تمر الايام وتتابع ويدور الفلك بالناس دوراته المتلاحقه فيغير الله.الاحوال بين يأس ورجاء وعبوس وصفاء واقبال وادبار والله يقلب الليل والنهار ، وقد خلق الله الموت والحياة ، والموت بلا شك حق لا ريب فيه وقدر نافذ لا مرد له رضي الناس ام سخطوا ، اعلنوا الحرب عليه ام سالموا ، سنة الله في خلقه موت وحياة ثم هكذا يدور الفلك وهكذا تتعاقب الاحداث ، والناس يتشبثون بهذه الحياة ويود كل انسان لو يمتد به العمر احقابا طويلة فاذا ما امتد به العمر في هذه الدنيا او فيما بعد العمر الغالب ، فانه يتمنى لو يتضاعف ذلك الزمن ويتضاعف ، ويتمنى مع ذلك لو يذهب ليل الشيخوخة وعبوسها لكي يعود اليه نهار الشباب واشراقه وابتسامه ، تلك طبيعة الانسان ، ولكن العمر مهما طال فهو قصير لان له غاية معلومة ونهاية محتومة ، وحينما يوفي الانسان على الغاية والنهاية يرى ان ما مضى فات وما فات مات ، ويرى السنين على كثرتها وطولها قد مرت مرور الطيف ، وانصرفت وتولت كانها سحابة صيف ، وحينئذ يتساوى من عاش عشرة اعوام بمن عاش مائة او مئات من الاعوام واذن فالمقياس الحقيقي لعمر الانسان ليس هو الزمن الطويل والعمر المديد ، وانما هو الاثر الخالد الحميد .
ولا شك ان فقيدنا العزيز المرحوم ابا عادل قد ترك من ذلك كثيرا فقد ترك لسان صدق فيما بعده وترك الاولاد الصالحين الذين سيدعون له بالرحمة والمغفرة ان شاء الله ، لقد كان الفقيد يشعر بالضعف كان يحس ان الموت يزحف اليه وان صحته لم تعد تستطيع ان تلبي جميع مطالبه او تستجيب لكل دعائه وها هو ذا يفارقنا ويخلف في نفوسنا اشد اللوعة واعمق الأسى فانا لله وانا اليه راجعون ..
نحن مجتمعون للتعزية ولنذكره ولكن ذكرنا له لن ينفض بانفضاض هذه الايام الثلاثة ، ستبقى الاعوام والاعوام ومحامده لا تفتأ مشهودة واياديه على المرضى والمستشفين لا تنسى ، وعند اصدقائه وزملائه لا هي معدودة ولا محدودة ، ذلك ان امثال فقيدنا الكريم في بلادنا ندرة نادرة تقع ان وقعت بين متباعد الامد ومتباعد الابد ، سنظل نذكره لخلقه وسماحته وكرامته وعلو نفسه وامانته ورجاحته قبل ان نذكره لعمله وعلمه وعقله ولانسانيته ،
وانت ايها الراحل العظيم في نفوسنا ، ايها الصديق الكريم فالى منازل الشهداء والصديقين وحسن اولئك رفيقا ، نستودعك الله الى ان يجمعنا الله بك في دار كرامته ان شاء الله ولا حول ولا قوة الا بالله ..
وبعد .. فما احسبني قد وفيت الراحل حقه من الرثاء ولا انصفته فيما ينبغي له من الثناء عليه بما هو اهله ، ولعل شفيعي في ذلك اني انما اسبح منه في بحر لجي زاخر بالدين والامانة والعفة والمحبة وأُحَلِّق من الفقيد في اجواء بعيدة مترامية الاطراف من مختلف القيم الخلقية للمسلم الحقيقي
في ذمة الله والى جواره ايها الراحل الكريم ما كان يلقاك احد الا طالعه منك هدوء النفس وطلاقة الوجه وسماحة الخلق وعذوبة الحديث وصدقه وعفة اللسان والاعراض عن اعراض المسلمين وطهارة القلب واليد واللسان ونقاء السريرةً.. رحمك الله وطيب ثراك ونضر وجهك يوم تجزى كل نفس ما اسلفت .
صديقك وزميلك / سعود المشعان
حائل
1438/7/20هـ