البلاد لا يصلحها غير السكون..
نرى كثيرا من الناس يتسابقون إلى الفتوى، ابتغاء الشهرة والتميز، وإن كان بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير، فيوقظ بذلك الفتن النائمة، ويزعج النفوس الساكنة المطمئنة
هكذا قال الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود -رحمه الله- وهي كلمة تُكتَب بماء الذهب، فالسكينة نعمة يمنّ الله به على من يشاء من عباده، ليزدادوا إيمانا، كما قال تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ» ، فالسكينة والحلم والأناة والتؤدة والطمأنينة، صفات يحبها الله ورسولُه، والآيات والأحاديث في هذا كثيرة معلومة، بخلاف العجلة والطيش والقيل والقال، التي هي من نزغات الشيطان.
يقول الملك عبدالعزيز -رحمه الله- ما نصه: «إن البلاد لا يصلحها غير الأمن والسكون، لذلك أطلب من الجميع
أن يخلدوا للراحة والطمأنينة، وإني أحذر الجميع من نزغات الشياطين والاسترسال وراء الأهواء التي ينتج عنها إفساد الأمن في هذه الديار، فإني لا أراعي في هذا الباب صغيرا ولا كبيرا، وليحذر كل إنسان أن تكون العبرة فيه لغيره».
ولهذا كان السلف الصالح لا يتدخلون فيما أُنِيط بغيرهم، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: «من حُسْن إسلام المرء تركه ما لايعنيه»، بل حتى ما يوجّه إليهم من فتاوى ونحوها يودون أن غيرهم يكفيهم المؤنة، فيتدافعون الفتوى، استشعارا للمسؤولية بين يدي الله، بينما الآن نرى كثيرا من الناس يتسابقون إلى الفتوى، كلٌ يقول: أنا لها.. أنا لها، وحتى لو وُجِد من هو أعلم منه، فإن ذلك لا يهمه، يتجاسر على ما لم يُسبق إليه، ويُفتي بجهلٍ وهو ربما لم يُسأل، ابتغاء الشهرة والتميز، وإن كان بغير علمٍ ولا هدى ولا كتابٍ منير، فيوقظ بذلك الفتن النائمة، ويزعج النفوس الساكنة المطمئنة، هذا المسلك دليل على نقصٍ في العقل، وجهلٍ في الشرع، وقد سمى الله تعالى «العقل» حِجْراً فقال: «هل في ذلك قسمٌ لذي حجر»، لأنه يحجر ويمنع صاحبه من الاندفاع وراء ما يطلبه المستمعون، مما لا يرضي الله ورسوله، ولأن المؤمن ذا العقل الراشد يدرك مآلات الأمور، فيَعلم أن متاع الدنيا قليل وأنه موقوفٌ بين يدي الله، ومسؤول عما قاله وفعله، وهناك لا ينفعه أحد من الخلق، قال الله تعالى: «إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا»، ولهذا فالعالِم حقيقة هو من يخشى الله: «إنما يخشى الله من عباده العلماء:، فيتبع طريق السلف الصالح، أهل العلم والسمت والبصيرة، ويحذر مسلك المتعالمين، المعروفين بكثرة الهذر والعجلة والجرأة والتوسع في الكلام، لأن هذا المسلك أدى من سار عليه إلى موافقة الخوارج أوالمرجئة في مسائل الدين والإيمان.
ومن السكون، ألا يُعطي الإنسان نفسه أكبر من حجمه، فيظن نفسه خبيرا بالحركات الإسلامية أو محللا سياسيا، أو خبيرا إستراتيجيا، ونحو ذلك من الأوصاف التي لم تُعط له من أهل الاختصاص، ولا يملك مؤهلا في ذلك، إنما هي دعاوى، والواقع أنه لن يعدو قدره، فكان عليه اللصوق إلى الأرض، ومُراغمة النفس عند استشرافها لعجْبٍ أو حب ظهور، لئلا يتحدث في أمورٍ شائكة، لم يحط بها خُبرا، ولئلا يسترسل في تحليلات لا خطام لها ولا زمام، وليس عليها آثارةٌ من علم، وأهواءٌ لا ينتج عنها إلا الشر والإفساد كما حذّر من ذلك الملك عبدالعزيز فيما نقلتُه عنه آنفا.
ومن السكون، عدم منازعة الأمر أهله، قال شيخنا ابن عثيمين «رحمه الله»، منذ عهد عثمان -رضي الله عنه- إلى يومنا هذا ما أفسد الناس إلا منازعة الأمر أهله، ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم، «عليهم ما حُمِّلوا وعليكم
ما حُمِّلتم»، فكلٌ له مهمة يجب أن ينشغل بأدائها، فللحروب رجالٌ يُعرفون بها، وللدواوين كُتَّابٌ وحُسَّاب.
فلا حاجة للنزاع، قال تعالى: «ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين»، وذلك لأن النزاع والخلاف سببان للتفرق، واختلاف القلوب، وبالتالي الفشل والضعف، وذهاب الريح، لأن من أقبل إليه ما يسره قيل: هبَّت ريحه ورياحه، ومن دخل عليه الوهن والضعف يقال: ذهبت ريحه، فالسكون والخلود إلى ما أمرالله به ورسولُه من الطمأنينة، والحذر مما نهى الله عنه ورسولُه من المنازعة سبب للحياة الطيبة، وراحة البال، وحسن المآل.
قال الله تعالى: «وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا».
أحمد الرضيمان