نهض من نومه متثاقلا ...فتح عيناه المجهدتان والمتورمتان من السهر الطويل بصعوبة وهما متسمرتان في السقف بل اخترقتا الجدار والحجر والزمن ... وحلقت بعيدا خارج نطاق المكان وأنين متلاحق من الأنفاس السجينة والمكبوتة تخرج متخاذلة ومطأطأة الهامة ... وعاد بذاكرته نحو زمن سحيق وماضي أليم وموجع ... تسارعت نبضات قلبه وارتعصت فرائصه وهو يعود ليعيش عمر الطفولة الغابر والتعيس وصوت ( جابر) زوج أمه يرعد ويزمجر ويناديه (( فهد ... وينك يا كلب ))
جمع شتات نفسه وهو كالورقة الجافة في مهب الريح وترك لقمة الخبز اليابسة في يده وأخرجها من فمه اللاهث رغم جوعه وأقبل راكضا نحو عمه ( جابر ) ليسابقه صوته وهو يقول (( نعم ياعمي .. أبشر ))
ولكن هيهات أن يهدأ هذا العم القاسي أو يكل عن الضجيج ... أو يمل عن الصراخ .. أو تتوقف يده الضخمة عن هز وضرب هذا الجسد النحيل والضعيف ... وبدأ العم الكاسر لجبر هذا اليتيم يلوح بيده يميناً وشمالاً ويضرب ( فهد ) الصغير اليتيم بكل جبروت ( ( ليش تأخرت في النوم ؟ ليش ما رحت للمزرعة يا كسول ؟ ليش وليش وليش ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟)) لمجرد تنفيس عن الغضب يستقر فوق هذا الجسد الذي سحقته الأيام ووطأته الأقدار وتقلبات الدهر وجور الليالي ...
وككل مشهد متكرر ( ام فهد ) ترمي بجسدها فوق إبنها الصغير ووحيدها وكل عالمها وأهلها وعزوتها لتنال أسواط الوجع كلها وتمتص أنين ( فهد )كله ....
ورغم القسم ورغم التبرير العقيم إلا أن العم ( جابر )كان بركان ينفجر حمماً لاتسمع سوى شهيق وزفير براكينه وحممه تتقاذفها ذراعاه ولسانه ... وكأن الرحمة تنتزع من جسده وشبح الموت والقسوة ترتسم به ملامحه المرعبة في كل مرة يتلبسه الشيطان ... بكاء مستمر ورجاء متواصل ولكن لا حياة لمن تنادي ....
عم شقيق لوالده المتوفي تزوج بأمه طمعا بما يملك أخيه من مزرعة وبضع شياه وبيت شعبي قديم ، وليس رحمة وشفقة بإبن أخيه اليتيم ، عّم قاسي أضاع ما يملك بِالشراب والقمار ، وعانت زوجته وأبناؤه الكثير منه ، وبجبروته تزوج ( أم فهد ) اليتيمة أيضا ليمتلك المزرعة والبيت الشعبي المتهالك وطفل نحيل يعمل منذ لحظات الفجر الأولى بالزرع والغنم مع أمه ،، ليبيع الخضار ويأكل عمه وأبنائه ما تجني يداه وأمه ،، وزوجة علمتها قسوة ( جابر )وجبروته الغضب والحقد الدائم الذي لايهدأ أبدا فصبت جام غضبها من ( جابر )وحياة البؤس معه على ( أم فهد وفهد ) فكرهتهما وعلمت أبنائها كراهيتهما وكأن مسلسل حياتهما الحزينه بخيار منهما .....
واستمر العم يضرب ويشتم وكل يوم تموت أمنية بعيون ( فهد ) ... وتنكسر أجنحة الحياة أمام ( أم فهد )
( بكره راح يكون أجمل يا ولدي ) هكذا تهمس ( أم فهد ) كاذبة وهي تمسح جروحها ودموع ( فهد )الغاضبة ..... ضاعت المزرعه بسبب القمار ... وباع الغنم لأجل الشراب
وانتزع منه البيت بسبب الديون ... ولم يتبقى سوى صوته البركاني ويده القاسية وزوجة تنتقم من القدر لتجعل ( أم فهد ) تعمل في بيتها كالخادمة لتحصل على ما يصلب جوعها وجوع ( فهد) ........
واستمرت الأيام ثقيلة وبطيئة و ( أم فهد )لازالت تمسح جروحها ودموع ( فهد ) وتهمس له كاذبة (( بكره أجمل من اليوم ))
هل هناك غد يا أمي ؟ كبرت على تلك الكذبة التي ظلت قزمة وصغيرة بل وتقزمت أكثر أمام جحيم هذه الحياة
هل العيش يتيما ومكسورا حياة ؟
هل الحياة وحيدا وضعيفا وعاجزا عيشا ؟
كبرت يا أمي وكبرت معي أمنيات سوداء وحياة بروازها سواد مقلتيك ومحاجر عينيك الباكيتان ؟؟
( وأما اليتيم فلا تقهر ) قالها وأمر بها الرحمن الرحيم ... ونفيها ورفضها الخلق الضعفاء .....
وكانت اللحظة التي قتلت كل الأمنيات ؟ وجارت على الغد الجميل الذي تعدني به أمي
عندما دخل ( جابر ) ذات ليلة ... سكيرا ومتخاذلا مثل كل مساء (( فهد يا كلب ... وينك يا حمار ))
هناك غضب يسكنه وشيطان يتلبسه وجسد ( فهد )اليتيم جاهزا للتنفيس عنه ... ولكن هيهات وجسد ( أم فهد ) درع لأحزانه ... وغطاء لأوجاعه
حاول أن يبعده عن أمه التي تحاول أن تصده عن ( فهد ) .
وهي تترنح ألما ونزفا ، وزوجته العجوز تجلجل ضحكتها وهي تصرخ بسعادة (( تستاهلين .. أحسن ))
وما هي إلا لحظة سكت فيها الصراخ والعويل وتوقف الزمن وبراكين العم الهادرة .... لحظة أشرقت فيها الحياة في عين (فهد ) ... لأن ذلك الضخم الجاثم فوق أمه خَر صريعا ... ميتا ... ورقبته تنزف دما بسكين جاء بها ( فهد ) .... ليقتل كل الأمنيات التي كان ينتظرها والأحلام التي كان يرسمها مع أمه ....
أغمض عيناه المتورمتان ألما وحزنا ودمعا ... من ذكريات الموت وهو قابع في زنزانته ...
سنوات مرت وذلك المشهد لايفارقه ... يجرونه للسجن طفلا .. قاتل لعمه شقيق والده ... وأمه تنوح خلفه .. وزوجة قاسية منتقمة ترفض أن تتنازل عن دم ( جابر )
وبصيص أمل باهت بأن يكبر أصغر أبناء ( جابر ) لعل الرحمة تكبر معه على ابن عمه
ولكن كيف ؟
وأم تغذي أبنائها كراهية ( فهد ) إنتقاما من ماضي ( جابر ) معها
كبرت يا أمي وحيدا خلف جدار الموت .. وانا لا زلت أنتظر الغد الجميل....
لعل الجميل في ( بكرة ) أن يسكن الهدوء جسدي ويفنى إلى الزوال ...
تزوج يا أمي أبناء جابر .... وإبنك ينتظر أن يكبر صغيرهم ... لعله هو ( بكرة )الجميل
أمه ستسعد ببلوغه لتزوجه .... وانتي تخافين بلوغه ... لأنه إعلان وفاة إبنك ...
أمه ستزفه لعروسه وتحيك بشته ... وأنتي ستزفيني للقبر وتحيكين كفني ...
عذرا أمي فبكرة سيكون أجمل بالجنة
عذرا عمي لم تكن يوما بمقام الأب أبدا ... قسوتك قتلتك وليست يدي
وسامحني يا الله .... وراض بقضاءك وطامعا بعطفك ...
غار الدمع في عيناه المتسمرتان في الفراغ .... وأغمضهما ليتدثر ظلام السجن البارد ويشهق باكيا ... وصدى صوت أمه يهمس له (( ابتسم .. بكره أجمل من اليوم ))
بقلم : عبدالمجيد الذياب
( صحيفة عين حائل الإخبارية )
4 pings