أسدل الليل أستاره ... وأفل النجم برحاله .. والقمر يلف أشتاته ... فهاهو الفجر أقبل يمتطي شمسه وشعاعه ...
والصمت المريب يكاد يخترق اسماعه .. ضجيج في القلوب .. يغلفه صمت من الصقيع ...
ترحل ذكرياتهم بحنين نحو الاهل والديار ... جمعهم الميدان .. وساحات الجهاد لأجل الوطن ..
هذا من الشمال والأخر من الشرق ورفيقه من الغرب وذاك من الجنوب ..
سالم وناصر ومحمد وابراهيم ...
التقت الأقطاب بين الأحراش وفي عمق الأدغال .. وعلى خط الحدود الملتهبة..
في الكتيبة السابعة ..
في اقصى اغوار الجنوب ..
فئة عاهدت الله إما النصر أو الشهادة تلبية لنداء الوطن .. ثورة دين وحمية ووطنية .. تنادي جميعها بقلب وروح واحده ...
لبيك يا وطني .. وسحقا للمعتدي الأثيم ...
لبيك يا جنوب يقولها أبناء الشمال والحدود من كل حدب وصوب ...
الصلاة يا رفاق ... قالها ( ابراهيم الشرقي ) مناديا للصلاة بعد ليل طويل .. توسدوا فيه السلاح والتراب والصقيع ..
وكان للظلام وحلكته شجن حزين وصوت مزمار من حنين .. ابراهيم تعتصره الذكريات ففي الشرقية خطيبته التي رفض الزواج بها حتى تتحرر الجنوب من خطر الحوثيين وينعم أهل الجنوب براحة البال والأمان ...
وارتحلت الذكريات لتنتقل الى ( محمد الشمالي ) ... التحق بالجيش في لحظات الفجر بعد ان قّبل قدمي أمه ... ( انا حذاؤك في الجنة ... أرجوك كوني عني راضية ) غادر مسرعا وهو يسمع ذلك البكاء المخنوق الذي انطلق يئن افتقادا وخوفا عليه من صدر أمه ... ( جعلني فداك) ..
قالها دون ان يشعر بعد ان تملكته لحظات الوداع المبكية .. ولكنه الوطن ولابديل عنه ولاعزاء فيه فقام ينفض ذكرياته ودموعه تسابقه ..
ناوله صديقه
( سالم الغربي ) القليل من الماء ليتوضأ ويمسح دموعه المنسكبة على وجنتيه ...
فقال سالم ( جميلتي سارة الصغيرة بكت في مثل هذه اللحظات وبنفس هذا الوقت عندما التحقت فجرا بالكتيبة ... لأول مرة تصحو فجرا لتمسك يدي ... بابا لاتسافر ) اوجعني وداعها يا ( ناصر الجنوبي )
... لنقم الصلاة فرحمة الله واسعة ...
قالها ناصر الجنوبي .. يارفاق الميدان والشهادة .. تركت والدي وحيدا ... لكن أثق ان الله معه فوالله إن الوطن غالي .. لابديل عنه أبدا .. حي على الفلاح ... حي على الصلاة ... قد قامت الصلاة ..
وقف ابراهيم حارسا .. متيقضا .. ومتوجسا خطر قادم ..
وأقام ابطال الكتيبة السابعه صلاتهم ... فإذا بالأحراش تهرول مسرعة بإتجاههم .. والقذائف ترمى مدوية نحوهم .. وابراهيم يوجه سلاحه نحو المردة أبناء الشياطين ...
يقذف بحمم من النار ... حتى أصابته رصاصات الغدر بمقتل ..
الله أكبر على الغزاة الماجنين ... لبيك ياوطني صاح بها ناصر .. انا فداؤك ياوطني .. فأصبحت تلك الأحراش المتحركة حطب يحترق .. جثث تتعفن .. صراخ مدوي يخترق الأسماع ..
قتال على ارض الجنوب البطل ...إجتمع فيه ابناء الوطن في كتيبة الشهادة السابعة ...
محرقة الأعداء ...
وحطب أرضها الطاهرة يفنون وتبقى الأرض الطاهرة .. التفت سالم نحو محمد .. فكان غارقا بدمائه الطاهرة وجبهته خاضعة لله في سجود مهيب .. فصاح والله لانتقم منهم يا رفاق فأخذ يقذف بذخيرته متقدما الصفوف ومخترقا المسافات حتى سقط شهيدا مضرجا بدمائه والابتسامة تعلو وجهه وملامحه ..فصاح ناصر الجنوبي ...(الله اكبر والعزة لله وحده )
وبجنون الانتقام والفقد لأصدقائه اخذ يرمي الاعداء الحوثيون في كل اتجاه ويطارد بسلاحه من يفر منهم لينجو بحياته
وما لبثت لحظات حتى اقتربت الإسعافات والإمدادات لنجدتهم ...
ولكن ... كان رفاق ناصر قد استشهدوا جميعا .. وغادروا يتسابقون نحو الجنان مستبشرين .. الشمال والغرب والشرق يضرج بدمائه على ارض الجنوب ..
لقد أصيب سالم الجنوبي في قدمه وذراعه .. لكنه اخذ يقترب من رفاقه رافضا مساعدة أحد ... ليؤدي تحية الرجولة والشرف لهم .. لترتفع التحية العسكرية لهم في الميدان من جميع الجنود ...
وقف ناصر متسمرا فقال :- "اطمئنوا يا شباب .. انتم السابقون ونحن اللاحقون .. اسعدي يا ام محمد فاهو الان حقا حذاؤك في الجنة وابتسمي ياسارة فوالدك ذهب مع مواكب الخالدين في رحلة الفجر .. ويا حبيبة ابراهيم ... هاهو يزف أمامنا نحو الجنة محاطا بحور العين ....
اما انت يا ناصر.. فلتطيب جراحك .. فالميدان ينتظرك وعذرا والدي .. كتيبة الفجر السابعة تزف الشهداء .. وانتظر دوري يحين .. فما أجمل الخلود .. لتفنى الأجساد وليبقى وطن الحرمين شامخا ..
انسكبت دموعه في لحظات الوداع الأخير .. ليس ألما .. ولا فزعا .. ولا وجعا ... بل افتقاد للأبطال الحقيقيون في زمن الورق المتطاير .. لبيك ياوطني .. لبيك يا مملكتي .. سأعود مع كتيبة الفجر السابعة ومعي أقطاب كالفولاذ من أبناء وطني .. يبيعون الدنيا ليشترون الأخرة ..
لقد صدق الله تعالى حين قال في كتابه الكريم:-
"وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) "
1 ping