تأبى الذاكرة أحيانا إلا أن تكشف لك عن غطاء وجهها وتريك من محاسنها و نور وجهها المشرق وخلاف ذلك يذوب مع نعمة النسيان والتناسي فيبقى الإشراق في محيّاها وأحيانا تجد فيها جوانب محزنة تحمل في طيّاتها قيماً عالية واقفة وملتصقة على جوانب تلك الذاكرة لا تنسى
فخاطبتني ذاكرتي ذات يوم بقولها : أتذكر قول الشاعر بداح العنقري - من أهل ثرمداء بالقرب من شقراء - المتوفى عام ١١٣٧هـ في بيتيه الشهيرين ؟! :
الطيب ماهو بس للظاعنينا،،،، مقسّمٍ بين الوجيه المفاليح
البدو والّي بالقرى ساكنينا ،،،،كلٍ عطاه الله من هبّة الريح
قلت : أذكرهما ويذكرهما الكثير الكثير من طيبين الرجال و عقلائهم
و مربط الفرس هنا : أنني سافرت - ولله الحمد -إلى أغلبية مناطق ومحافظات ومدن المملكة : شمالها وجنوبها شرقها وغربها وإحدى عشرة دولة وبعضها تكررت زيارتي لها عدة مرات ووقفت هنا وهناك على جميل ما فيها من طباع أهلها الطيّبة - جمّل الله حالهم - ومن أشهر مواطن الذكريات الطيّبة في نجران والأحساء و العلا و فيفا وجزيرة فرسان في البحر الأحمر مقابل محافظة جيزان ب٤٣كيلو .
لكن يبقى على سنام تلك الرحلات والسفْرات محافظة الجموم - شمال غرب مكة ٢٥كم - وتقع فيما يعرف بوادي فاطمة الذي يعرفه كثير من جيل الطيّبين - أيام الطفولة -بحليب وادي فاطمة الحليب التوأم لبوني وللمعلوميّة فاطمة التي سمّي عليها الوادي والحليب اختلف فيها على خمس فواطم إحداها : أنّها امرأة تركية أو أنها امرأة من الأشراف كانت تملك الكثير من الخير والمزارع في ذلك الوادي فسمّي ذلك الوادي باسمها وادي فاطمة وعودا على رحلتنا القصيّرة كان لدي اختبار تحريري في جامعة أم القرى يوم ثلاثاء من١٤٢٢هـ عدّت للحرم المكيّ بعد الاختبار فعلم صاحبي سمير بن مقبول البشري - والبشور أحد أفخاذ قبيلة حرب الحجاز - أني موجود ووالله لا أعلم هل أخبرته أنا أم عن طريق أحد الزملاء في حفرالباطن ؟ حيث أننا كنّا زملاء عمل في مكان واحد فكان بيننا موقف طيب ،
و في حدود صلاة المغرب في الحرم جاءني اتصال من أخي سمير : أبو عبد الرحمن ( وينك) (وينك) ؟
كنت في إحدى جهات الحرم تقابلنا ، تقابلنا بعد انقطاع سنتين أو ثلاثة وبعد السلام قال : تروح معي الآن الآن للبيت قلت : المعذرة والله رحلتي الليلة في حدود الساعة ١٠:٠٠ لابد أن أكون في المطار والوقت ضيق جدا ولو راحت الرحلة ما في رحلة - طبعا مطار جدة في وقت الصيف متعب جدا - قال لي سمير : إن أباه قال له لازم لازم يجي معك و قال : والله ما يجي بنزعل عليه ومع كثرة الإلحاح وافقت وأنا أعلم في نفس الوقت أن موعد الرحلة ١٠٠٪ تأجل ( وللمعلوميّة طبيعة أهل الحجاز إذا زعل الواحد منهم يتحول المزح إلى جد حقيقي ) عندها استسلمت لأني أعرف في قرارة نفسي أن إلحاحهم طيبا وكرما و محبّة فوافقت وذهبت معه وصلنا إلى الجموم سلّمت على والد سمير و إخوانه فواز وهاشم وآخرين وأبناء عمومتهم وأنسابهم بعد تناول القهوة بادرني والد سمير بقوله : ما لك حق يا أبو عبدالرحمن تستأجر وبيوت إخوانك موجودة وتستأجر سيارة وسيارات إخوانك واقفة ( حتى أنه من شدّة الزعل قال لي تستأجر سيارة وأنا في ذلك اليوم أصلا لم أستأجر سيارة لكن حبا لي وتقديرا ) كانت جلسة وليلة من أروع الليالي حفاوة وتقديرا ولطافة و كان التعريف بي وكثرته قد أعطاني مكانة لا أستحقها لكن طيبا منهم حتى أنه من بين ملاطفاتهم لي أنهم ذكروا لي معلّما قريبا منهم في الجموم نفسها يشابهني في الاسم الثلاثي كاملا على غرابة اسم والدي - عافه الله ورفع الله منزلته - بعد جلسة ماتعة قال والد سمير : تفضّلوا على عشاكم وكان بجانبي أحد إخوة سمير واسمه هاشم الذي لم ينشغل بالعشاء أبدا بل جعل شغله الشاغل الضيف بل أجزم أنه لم يأكل شيئا يذكر وكان ينتهج طريقة المجتمع الكريمة (في ذلك الوقت ) في تقطيع اللحم للضيف احتفاء به بل حتى أن هاشما أخذ الجو على العشاء مع قصر المدة التي ما زادت عن نصف ساعة كان يداعب ويعلق على غير طبيعته كما يبدو لي .
قمنا من العشاء وجلسنا ساعتين تزيد أو تنقص بمشاركة الجميع جلس بجانبي هاشم - أخو سمير - لاطفني وحادثني بمزيد اهتمام حقيقة والله لم أرَ هاشما إلا في تلك الليلة وفي حدود الأربع ساعات وأكد عليّ بأن أزورهم مرة أخرى وأكد بقوله : لازم لازم وأخذ منّي وعدا بذلك وممّا علمت عن هاشم ذو ال ٢٣ أو ال٢٤ عاما أنه تخرج قبل أشهر من دورة الضباط الجامعيين ملازم أول وأظنه ملازم مهندس في إحدى القطاعات الأمنية القريبة منهم و كان مقبلا على الله بصدق و رأيت عليه علامات القرب من الله في بشاشة وجهه وحلاوة لسانه حقيقة أخذ الجو على صويحبي سمير بعدها و بمثل الحب والتقدير كان الوداع حارا وبمثل الاستقبال و قريبا من الساعة الثانية عشرة قال فواز - أخو سمير الأكبر - : تفضّل معي يأبو عبد الرحمن للمطار فسابق أخاه -سمير - الطيّب أطيب منه ( وكل بيتهم بيت طيب ) و لأنّ الجموم تقع في شمال غرب مكة وفي أقل من ساعة كنّا في مطار الملك عبدالعزيز وقبل الساعة الواحدة كنّا عند باب الطائرة بدون أي إجراء لا تذكرة لا بطاقة صعود طائرة كان كل شيء كان مرتّبا مسبقا وبدون أي دور منّي عدا حقيبتي في يدي ، يا فواز : ما قصّرتم شكر الله لكم ، سلامي للوالد والأخوة الكرام في أمان الله في أمان الله
(تأملت واستذكرت وأنا على مقعد الطائرة ذلك البيت الطيب الذي ملىء طيبا وكرما وحبا وتقديرا جعلني أعود وأتأمل مرة أخرى في بيتيّ العنقري الشهيرين )
طارت الطائرة نزلت في الرياض قبيل فجر الإربعاء بعد ثلاث ساعات اقلعت طائرة أخرى في الساعة السادسة أو السابعة إلى حفر الباطن مضى الإربعاء وفي يوم الخميس و عند الساعة الثامنة صباحا رن جوالي اتصال في وقت غريب !! فتحت الخط قال المتصل : أبو عبدالرحمن السلام عليكم أنا ولد عم سمير أخذت جوالك من جوال سمير وأبكلمك قلت : سمّ
قال : أبو عبد الرحمن ترى هاشم خويك يطلبك الحل(مات) البارح قلت : لاحول و لا قوة إلا بالله يا الله هاشم !! كيف ؟ قال : رجع من برنامج دعوي للبيت البارح عند الساعة الواحدة توضا بعدها قام يصلي الوتر وقبيل الفجر بوقت فاضت روحه لله وهو يصلي الوتر
قلت له : أعطني أبو سمير وأخوانه عزيّتهم وأقسم عليّ والد سمير يمينا مغلّظة أني ما أجي لأنه يعلم أن الساعات الأربع الرائعة في تلك الليلة التي قضيتها في بيته كفيلة بأن أتوجه من حفر الباطن إلى مكة لهم معزيا ،
فرحم الله هاشماً رحم الله هاشماً رحم الله هاشماً وأسكنه فسيح جناته .
سالم دوّاس المهيني