[ALIGN=CENTER]
[COLOR=red]( العزاء ) [/COLOR]
رؤى لأحداث وصور لأوضاع مقلوبة من وحي واقعنا المعاصر، نستعرضها هنا لأن الإنسان أحيانا يحب أن
يقرأ نفسه لا أن يراها أو يسمعها ، ونستعرضها لمن قمعت مشاعرهم ، وإن شئت قل نوعا من جلد الذات... ولاستعرضها ترفا بل نـُشرِّحُها - بمبضع الجرّاح - لمحاولة الشفاء من الوباء أو تحجيمه على الأقل ، وعلى خـُطى:"..مبال أقوام يفعلون كذا..وكذا.."مع اعتزازنا بالجانب المملوء والمشرق من الكوب وهو الأغلب بالطبع ، ومع قناعاتنا بأن كل مانستعرضه من أفكار لتعديل المسارماهو إلا تنظير ليس له أي أثرمالم يقترن بالتطبيق.
ـــــــــــــــ
( 1 )
ــ : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس
والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه
راجعون ) ..
* ( أحدهم رددها بهمس .. أراد أن يوطـّن نفسه ، ويخفف وطأة الحزن
عليها.. جلس القرفصاء ، ثم واصل همسه لنفسه )
ــ : نعم .. لقد قال أحد حكماء عصرنا وهو يتحدث عن فن العيش :" .. الحياة
هي لذة وألم .. سعادة وشقاء.. الحياة جدلية ، ومبدأ الازدواجية هو جوهر
وجودها ، وهو تعايش الأضداد . لايمكنك أن تبقى سعيدا إلى الأبد ، وإلا
فقدت السعادة معناها ، ولا يمكنك أن تبقى في حالة انسجام إلى الأبد وإلا
زالت حالة الوعي بالانسجام .. كل لذة تحمل في طياته بعض الألم وكل
ألم يحمل في طياته بعض اللذة .."
* ( في اليوم الأول للعزاء .. هناك حركة استثنائية .. التحضير لتجهيز الميت
قائم على قدم وساق .. مجموعة من الأقرباء في منزل أهل الميت ) :
".. نشيج .. وتأوهات .. تهليل .. واسترجاع .. وحوقلة .."
* ( مجموعة أخرى من الشباب - كالنحل همّة ونشاطا - برفقة الميت
لتخليص كل مايخصه من إجراءات نظامية ، ومن ثم نقله إلى المغسلة ، ثم
الصلاة عليه.. هناك أيضا ) :
" بكاء .. ودموع على أوجان قد احمرّت .. وتنهدات هنا وهناك .. ونظرات
الوداع الأخيرة للميت .. وشريط من الذكريات يمر سريعا في عقول
الحاضرين .. الله أكبر .. هكذا الدنيا .. يالضعف الإنسان ، وقلة حيلته أمام
هذا المصاب الجلل ... ثم دعا له جموع المصلين .."
* ( الآن دائرة كبيرة من الفسيفساء البشرية مكوناتها ومنظومتها من بعض
الجيران وبعض الأصحاب فضلا عن أهل الميت وأقربائه أثناء استقبال
العزاء في المقبرة .. صُور مشرقة لوفائهم وتواصلهم مع أرحامهم
وجيرانهم وأصدقائهم .. حاضرون بقلوبهم الصافية النقية في كل مناسبة
في الأفراح والأتراح .. أصوات مختلطة تلتقطها الآذان .. نغمات أخروية
لمجموعة من المعزين .. ترحم .. وأدعية .. من هنا وهناك ،وعبارات
واستفهامات ) :
ـ : هل هو مريض ؟
ــ : .. نعم .
ــ : من أكبر أولاده ؟
ــ : .. فلان .. الحمد لله على قضائه وقدره .. الحمد لله .
ــ : الا تلاحظ كثرة تقبيل المعزين !!؟ إنه إجهاد لأصحاب العزاء !!
ــ : .. نعم .. والمصافحة باليد تغني في مثل هكذا ظروف !! ، وهنا يحضرني
موقف متعقلا لأحدهم - في هذه المقبرة بالذات - حينما قال مجتهدا :
" .. جزاكم الله خيرا فليُكتفى بالمصافحة دون التقبيل "فأتاه الرد طازجا
من أحد المتحمسين وسط الجموع بقوله: ".. صافحهم أنت ، أما نحن
فسنقبّلهم .."
* ( ونغمات دنيوية تلتقطها الآذان أيضا لثلة من هؤلاء المعزين دون مراعاة
لمشاعرالآخرين ) :
ــ : هل بيعت أرض فلان ؟
ــ : .. نعم .
ــ : كم وصلت قيمتها ؟
ــ : .. ثلاثمئة ألف .
ــ : هل تستاهل ؟
ــ : .. نعم .
* ( وثلة أخرى تدير رؤوسها تختلس نظرة يمنة ويسرة تعلو محياها
ابتسامات تداريها على استحياء لتستر نفسها عن أنظار الآخرين ..
لأن الموقف لايحتمل مثل هكذا دردشة ) :
ــ : مبروك الفوز .
ــ : الله يبارك فيك .
ــ : حارسنا أبدع ، والحكم ظلمنا !!.
ــ : .. نعم .. صحيح .
( 2 )
* (الآن في المنزل..أصوات مختلطة وعبارات غير مكتملة تلتقطها الآذان ):
" السلام عليكم ... أحسن الله ... مأجورين ... أصبر و ... لله ماأخذ .."
* ( رنين الهواتف الجوالة لاينقطع .. مختلطة أصواتها بأصوات الوافدين
عبارات هنا .. وهناك .. ) :
" نعم .. نعم .. معك .. جزاك الله خير ..الحمد لله على قضائه وقدره .. خذ
فلان معك .. وفلان غير موجود .. سأبلغه حينما يعود .."
* ( مال أحدهم إلى مجاوره وقال ) :
ــ : من هو الأولى بالإهتمام هل هو الحاضر لأداء واجب العزاء !!؟ أم هذا
الذي هوعلى الهاتف !!؟
ــ : كلاهما له حق .
ــ : أعرف بأن لهما الحق .. ولكن حينما يتصادف وجود إنسان على الهاتف
وآخر أمامك بنفس اللحظة عليك بالإستئذان من صاحب الهاتف لحظة لجبر
خاطر من حظر !!
ــ : نعم .. هذا مايجب فعله .
ــ : كما أن هناك انتقائية باختيار من يتقبل العزاء ممن هم على الهواتف
الجواله !!
ــ : لم أفهمك !!
ــ : أعني ألسنا كلنا أقرباء للميت !!؟
ــ : نعم .. ولكن ربما المتصل طلب أسماء بعينها !!
ــ : في هذه الحالة معذور .. ولكن بعض هؤلاء المتصلين من يطلب إعطائه
كل من له علاقة بالميت .. يريد الإحتساب .
ــ : ومايدريك بذلك .. هل تعلم الغيب !!؟
ــ : لا .. ولكن أحيانا بعض هؤلاء المتصلين من يتصل مرة أخرى ويقول:
" كنت أتوقع بأنك لست موجودا هنا - يقصد في مجلس العزاء - فأرد :
و لماذا !!؟ فيقول : لأنهم لم يصلوني بك لأكلمك مع طلبي إعطائي كل
من له علاقة !!..".
ــ : ربما كان ذلك سهوا .
ــ : ربما .. ربما !!
( 3 )
* ( وفي اليوم الثاني للعزاء .. وكلما خف الوافدون للعزاء .. يتم التقاط
الأنفاس .. إما بشربة ماء .. أو إرتشاف فنجان قهوة .. أو شاي ..
أو ابتسامة على استحياء لموقف فيه طرافة .. كأن يرتبك وينطق أحد
المُعزين بعبارة ) : " كل عام وأنتم بخير .."
* ( ثم يستدرك ويعود .. ويكمل .. ) :
" أحسن الله عزاءكم .. "
* ( ويخرج على عجل واستحياء مدركا أن الألسن ستلوكه .. ومنذ لحظات
حضر أحد الدعاة وذكّر الحاضرين .. ودعا للميت .. أحدهم يميل إلى
الجليس المجاور .. ثم يستفسر ..) :
ــ : هل التعريف بالقادمين للعزاء ضروري !!؟ أعني .. لو كان بإنتقائية
لأناس دون آخرين !!
ــ : لم أفهمك !!
ــ : أعني بأن تعرّف بشخص معروف .. وتترك من دخل المجلس معه بنفس
اللحظة .. وقد يكونا قدما معا بسيارة واحدة !!
ــ : سؤالك محيّر !!
* ( ثم هو ذاته يسأل صاحبه ) :
ــ : من هذا الذي خرج الآن ؟
* ( علامات التعجب تكسو محيا صاحبه فسأله ) :
ــ : هل التعريف ضروري !!؟
ــ : لماذا تكرر سؤالي الآنف !!؟
ــ : متعجبا منك !!
ــ : هذه غير تلك .
ــ : لا أعرفه .. أسأل فلان لعله يعرفه .
* ( ثم يسأل )
ــ : نعم ..هذا فلان بن فلان ..
*( وقد ينبزه هذا بلقبه ، ثم يواصل حواره الرتيب والمُملّ لصاحبه )
ــ : لماذا فلان يتقبل العزاء ؟ ماعلاقته ؟
ــ : سبحان الله ، ألا يستحق بأن يُعزّى الجار بوفاة جاره ، ناهيك عن
القريب !!؟ أمرك غريب هذا الصباح !! ألا تعرف الأصول !!؟
* ( وحوار هاديء هناك صادرا من أحد طرفي المجلس):
ــ : كيف عرفت بوفاته - رحمه الله - ؟
ــ : لقد بُلـّغت برسالة جوال من قِبل فلان - جزاه الله خيرا - .
ــ : إنها عادة طيبة .. ففي السابق لقلة وسائل الإتصال تمضي الأيام دون أن
نعلم بالوفاة ، وقد يلومك صاحب العزاء .
* ( وآخر يبدي ملاحظة لصاحبه بصوت خافت ) :
ــ : الملفت للإنتباه مع هذه الصور الجميلة من التلاحم ، إلا أن بعض الأقرباء
للمتوفى لقلة وعيهم ولعدم ادراكهم لهذه المهمة والتي ربما يرى بأنها
ليست بذات أهمية . تجده يتوارى خلف صفوف العزاء في المقبرة أو حتى
يندر حظوره لمنزل العزاء هنا !!
ــ : أما أن يتوارى خلف الصفوف فلا شك بأن ذلك خطأ .. أما ندرة حظوره
للمنزل فلا لوم عليه لأنه ربما يرى بأن ذلك ليس بضرورة ويكتفي
بالمقبرة . أو قد يكون مريض أو صاحب عاهة فمعذور .
ــ : نعم .. نعم .. معذور .
( 4 )
* ( وفي اليوم الثالث حوار في المجلس الآخر قال فيه أحدهم ) :
ــ : ألا تلاحظون أن تجمهر المعزون حول حفرة القبر أثناء الدفن في
الحقيقة يعيق حركة المقربين للميت لاتمام مهمتهم ..!!
* (أجاب آخر ):
ــ : المعزون مجتهدون .. يرى الكثير منهم أن التصاقهم بالقبر من أوجب
الواجبات .. إنها الحميمية بين الناس ياصاحبي . فيُشكر الناس على
تلاحمهم ووقوفهم مع أهل العزاء ، ولكن الا ترون بأن هنالك مبالغات في
تقديم الطعام للموجودين !!
* ( رد صاحبه ):
ــ : سبحان الله .. إذا رفض صاحب العزاء قبول مثل هذه الولائم لايسلم من
ألسنتكم !! وإذا قبلها تلومون من يقدّموا هذا الطعام بحجة الإسراف !!
* ( تدخل ثالث وبحماس ) :
ــ : لاهذه .. ولاتلك .. أرى أن لاتـُرفض هذه الدعوات ، وأن لايُبالغ في تقديم
الطعام .
* ( تدخل آخر ) :
ــ : ياجماعة .. إن الذين يرفضون مثل هذه الدعوات لايريدون تكليف الآخرين
لأنهم يعرفون أن صاحب الدعوة لن ينصاع لشروطهم بعدم الإسراف .. بل
تصبح مجالا للتنافس المذموم!!والعلاج أن ينصرف الأقرباء من المعزين
عند الأذان لصلاة الظهر، ويعودون بعد صلاة العصر ، ثم الإنصراف مرة
أخرى عند الأذان لصلاة العشاء ، وهكذا بقية أيام العزاء ، وذلك لإعطاء
أهل العزاء فرصة لإلتقاط الأنفاس ولإلتمام الأسرة معا ،ولكي يكون الطعام
المقدم خاصا بهم فقط ، وهذا هو المشروع ، وبذلك نقضي على الإسراف
في ولائم العزاء .
* ( تململ أحدهم واستقام بجلسته وتحرك إلى الأمام مقتربا من حافة المقعد
وقال ) :
ــ : لاتنسون بأنكم في مجلس العزاء وصوتكم بدا يعلوا ومن الحاضرين في
المجلس الآخر من شارك بتقديم الطعام وهم يسمعون جدالكم الآن.. فلا
تكثروا نقدهم .. !! فجزاهم الله خيرا على ماقدموه .
* ( وفي آخرنهارهذا اليوم تبدلت الوجوه بحكم الحركة المستمرة للمقيمين
وللداخلين والخارجين بلا عودة .. فأخذ الجو يأخذ منحىً آخر.. وبدأت
عجلة الحياة تعود لسابق عهدها واصبح الطابع العام والجو أكثردنيوية ..
ضحك .. مزاح .. تعليقات .. قفشات بين الحاضرين .. هذا فيما يتعلق
بالمشاركين في العزاء من الأقرباء والأصحاب والجيران .. أما أسرة الميت
فبلا شك بأن الحزن العميق بادٍ على وجوههم ومرارة الفراق ظاهرة على
مُحيّاهم .. أعانهم الله .. وعند وداعهم لسان حال المودّعين يردد ) :
" ... اللهم اجرهم في مصيبتهم وأخلف لهم خيرا منها ... " [/ALIGN]
[COLOR=blue]( رؤية / عبدالعزيز النعام )
" عين حائل " خاص[/COLOR]