[ALIGN=CENTER][COLOR=red]البائسون!![/COLOR]
إنَّ هذه الحياةَ الدنيا مليئةٌ بالعجائبِ والغرائبِ لمن تَدَبَّرها بعينِ مُبصرٍ وعَقْلِ خبيرٍ,
عشراتُ المشاهد بل المئاتُ تمرُّ علينا ولا نُولِيها اهتمامًا, أو نقفُ عندَها وقفةً قصيرةً كما يقفُ أحدُنا عندَ حادثٍ مروريٍّ للتَطَفُّلِ فقط!!
لو فكَّرَ أحدُنا بما يشاهدُه في يومِهِ من المشاهدِ الحزينةِ ثم تناولَ قلمَهُ للكتابةِ عمَّا رآهُ فقد يكتبُ قلمُهُ كلمتيْنِ ثم يقفُ عاجزًا بعدما سكبَ مِدَادَهُ كلَّهُ على تلكَ الكلمتين: رأيتُ البائسينَ!!
مشهدٌ يتكررُ بين الفينةِ والأخرى, قد رآه الكثيرُ مراتٍ عديدةً, فلم يُحرِّكْ فيهم ساكنًا ولم يَهُزَّ لهم طَرَفًا, فعَجَبًا لنفوسٍ تظنُّ أنَّها حيَّةٌ تتأثرُ وإنما هي ميتةٌ لا تَشْعُرُ!!
ولذلك فإنَّ النفسَ -الرحيمةَ- عندما تمرُّ بمشاهدَ حزينةٍ تبكي بُكاءَ الثَّكْلَى التي فَقَدَتْ وحِيدَها فكأنَّ قلبَها قد فَقَدَ مكانَه!!
ذاك المشهدُ الذي كلما شاهدتُه لم أستطعِ التصدي للدموعِ التي أتتْ مسرعةً لاستنجادِ المشهدِ بها عندما لم يجد أحدًا يعطفُ عليه!!
ذاك المشهدُ الذي كلُّ لحظةٍ من لحظاتِهِ أقفُ عندَها متأملاً ومتألمًا, فيا للهِ كم في هذا الكونِ من بائسٍ وحزينٍ؟!!
سيَّارةٌ تُقِلُّ مجموعةً من عُمَّالِ النظافةِ في الصباحِ الباكرِ, والسماءُ مُلَبَّدَةٌ بالغُيُومِ, والهواءُ الباردُ يصطدِمُ بوجوهِهم, وكل واحدٍ منهم قد جلسَ بجانبِ صديقِه والتصقَ بهِ, و ثنى رُكْبَتَيْهِ إلى بطنِهِ وشبَّكَ بين أصابعِهِ من حَوْلِ رُكْبَتَيْهِ وهُوَ يرتعشُ من شدَّةِ ما يجدُ من البردِ, هذا هو ديدَنُهم كلَّ صباحٍ.
كنتُ أقفُ خلفَهم بسيارتي عندَما كُنَّا واقفينَ عندَ إشارةِ المرورِ استعدادًا للانطلاقِ, فأرسلتُ فِكري في هذا المشهدِ البائسِ, وتَفَحَّصْتُ وجوهَهم فكأنَّها تَسْتَعْدِي الأحزانَ والأشجانَ التي غيَّرتْ ملامحَها وقتلتْ سعادتَها,
فتقولُ: خُذْ بحقِّي منها فلَقَدْ طردتِ الدموعَ من مساكنِها والأنَّاتِ من أوطانِها, فصارتِ الدمعةُ والأنَّةُ بلا مسكنٍ ولا وطنٍ, والمساكنُ والأوطانُ إنْ هُجِرَتْ خَرِبَتْ.
كنتُ أتساءلُ: ولِمَ أتوا إلى حيثُ ألقى رَحْلَهُ الشَّقاءُ؟!! فإذا شُعاعُ أبصارِهم الضئيلُ يُجيبُني قائلاً: قد فارقْنَا ديارَنا وأهلَنا لنبحثَ عمَّا يَسُدُّ جوعَنا وجوعَهم فإذا بِنَا نشبعُ شقاءً وبُؤسًا حتى أُصبنا بالتُّخَمَةِ, فلا هناك أحدٌ يعاني مثلَ الذي نُعانِيه, ولكن يُعزِّينَا قولَ القائلِ:
صَبَرْتُ عَلَى بَعْضِ الأذَى خَوْفَ كُلِّهِ****وألْزَمْتُ نَفْسِي صَبْرَهَا فاسْتَقَرَّتِ
وجَـرَّعْـتُهَا المَـكْرُوهَ حتى تَــدَرَّبَتْ****ولـو حُمّـِلَتْـهُ جُـمْلـَةً لاشْـمَـأَزَّتِ
وفجأةً انطلقتْ سيَّارتُهم بعدما سُمِحَ لَنَا بالانطلاقِ, ووقفتُ هُنَيْهَةً ثم انطلقتُ ولساني يلهجُ بالدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ أسْعِدْ كُلَّ بائسٍ ومسكينٍ).[/ALIGN]
[COLOR=blue]صالح الجسار
( صحيفة عين حائل ) خـاص[/COLOR]