[ALIGN=CENTER][COLOR=red]معاركنا الجانبية.. بين أكل لحم الجني ورياضة المرأة![/COLOR]
مهمة الإنسان في هذه الدنيا عظيمة جدا، تتطلب منه أن يكون في غاية الجد والذكاء لتحقيق ما يمكنه منها، ويسلك من الطرائق أقربها وأنفعها ليصل إلى غايته ويؤدي مهمته على أكمل وجه.
ولأن عمره قصير فقد أوجب عليه أن يكون ضنينا بأوقاته أن تضيع فيما لا فائدة منه، وأن يحرص على ألا يقضيها في معالجة أشياء بعيدة عن صلب مهمته، فتستنزف منه عمره ويُغبن في أغلى ما يملك، وإلى هذا يشير ابن الوردي الشافعي في أرجوزته الشهيرة بقوله:
والعمر عن تحصيل كل علمِ يقصر فابدأ منه بالأهمِ
وذلك الفقه فإن منهُ ما لا غنى في كل حال عنهُ
فمهمة الإنسان الكبرى الخلافة في الأرض، وإقامة العدل فيها، وعلى رأس ذلك توحيد الله جل في علاه، وإنما منح العقل وشرف بالتكليف ليحقق هذه الغاية، وينجز هذه المهمة.
فإذا عاش الإنسان حياته، وقضى عمره بلا هدف، ولا غاية، نزل بقيمته إلى البهيمية، بل ربما فاقته البهيمة حيث تؤدي رسالتها كما رسمت لها.
فكان لزاما عليه أن يجمع فكره وهمه، ويسعى في تحقيق غايته، وأداء مهمته، فيرتب أولوياته في طريقه إلى الغاية، ويحمل رسالته فلا ينشغل عنها بمعارك جانبيه تلهيه عن لب قضيته، ويستفرغ فيها طاقته وإمكاناته الفكرية والبدنية.
وهذه إحدى أهم الفواقر التي أنهكت العقل العربي والإسلامي وأوصلته إلى وضعه المثير للشفقة حينا، وللسخرية حينا آخر.
إنك لتحار في خامل منا يعود غزالا لا تُدرك إذا ما طُرقت فروع الدين، وينقلب أسدا هصورا ليذود عن حياضه، ويشعل فتيل معارك لا نهاية لها، ويرقى بها إلى مصاف أصول الدين، وقواعده التي لا تقبل الجدل، بينما يبدو المُجِد خاملا وغير آبه بما يرقى بأمته ودينه، ولعله يرى الاشتغال بذلك نوعا من الضياع والخذلان، أو السفه والطيش.
فيقضي جزءا كبيرا من عمره يجالد القريب والبعيد عن إحدى القضايا الاجتماعية التي ظنها من أساسيات الدين، وجهادا لا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال.
والحياة أغلى من أن يجعل الإنسان هدفه فيها المحاماة والعراك عن فرع فقهي، ينام ويصحو عليه، ولا يدور بخلده غيره، وتزداد الحسرة عليه إذا كان هذا الفرع مجرد وجهة نظر يقابلها وجهات نظر أخرى مساوية لها، وربما أقوى منها.
ولا يعني هذا أن لا يبدي رأيه، أو أن لا يقول كلمة الحق التي يراها إبراء للذمة، إنما المعيب أن تكون هماً، وهدفاً يشغله عن مهمته الأصل، فيفت عضده، ويسل سيفه ليضرب به الصخر حتى يُفل.
وفي تاريخ أمتنا أمثلة كثيرة من هذه المعارك الجانبية التي شغلت العقول عن روح الإسلام وهدفه الأسمى في الحياة، وأراد العلماء وضع حد لها فقالوا بصوت واحد: لا إنكار في مسائل الخلاف.
فلنختلف حتى يتبلور الفكر ويذكو، وتنضج العقول، وليكن الخلاف محلا لترويض العقل وسعة الصدر والاقتباس من طرائق التفكير المختلفة لتتلاقح العقول لا لتتناطح.
وفي نظري أن خوض هذه المعارك إنما هو تبرير للعجز والفشل الذريع عن معالجة القضايا الكبرى، وعدم الكفاءة والقوة في الصمود والصبر على الإصلاح والبناء، وقلة التدبير، والعجز عن التفكير الموضوعي والمنطقي.
وقد تغطى هذه المعارك بدافع حب الدين والغيرة عليه، فلم غفلنا عن الشر المحدق والخطر الداهم والدواهي التي تباغتنا بين الحين والآخر، ولم نفكر يوما بتقديم حل أو طرح مفيد.
إننا نرى أعداء الإنسانية يخمشون بأظفارهم في الجسد المسلم، ويحرقون في وطننا العربي كل أخضر، ويصدرون الأخلاق القاتلة، وينحرون كل ما قد ينعش العربي ولو على الأمد البعيد، فيئدونه في مهده، ونرى من المسلمين من لا قناعة له بالدين كحاكم ومصلح للحياة، ولا يثق بكفاءته، ونحن نملأ الدنيا صراخا بالمرأة وزينتها ومشيتها وعملها وقيادتها السيارة، ورياضتها، كأن لم يبق من مظاهر الكمال الإنساني والإسلامي إلا هذه.
وقديما شغلت العقول بمسائل من فضول العلم طويلة الذيل عديمة النيل - ولا أقول قليلة النيل - وسموها عقيدة وتوحيدا، ومزقت الأمة الإسلامية شذر مذر، وقطعت روابطها، ومزقت وحدتها، وقضيت فيها نفائس الأوقات، واستهلكت حيزا كبيرا من حياة المسلمين، فأضحت أمتنا ضُحَكة - بفتح الحاء -
وابتسم العدو بسمة الظفر كأنما احتل حمانا وانتصر.
وفي الطرف الآخر شغل الفقهاء بمسائلهم وتفريعاتهم التي لا تمت إلى الواقع بصلة، وأطالوا في تقرير هواجس وأوهام ملأوا بها كتبهم.
وضاع أصحاب الطرائق الصوفية مع خواطرهم وإشاراتهم، وانعزلوا الحياة خوفا منها وطلبا للآخرة، وتعددت المدارس والتوجهات وصاروا يتراشقون ويتراجمون بالتهم الجوفاء، فلا الفقيه يرى قدرا للنحوي، ولا النحوي يرى للفقيه قدرا، ولا رجال الحديث يرون قدرها لهما، ولا هم يرون له قدرا، فقد أكثر الكل من تسفيه الآخر، فنحن أمة سفيهة في نظر بعضها لبعض.
وطال النقاش بين العلماء في تقرير من المراد بقوله {إنما يخشى الله من عباده العلماء وحصرها كثيرون في العلم الشرعي، بينما سار غيرنا في طريق بناء الحياة، يبني، ويخترع، ويبدع، وينتج، ويكتشف، ويصنع، ويثري الحياة بالمعرفة والرقي، ونحن ما زلنا منغمسين في التراشق لنرى أيهما أفضل، صحفي خائن، أم (بص.. شيخ)، وضاعت جهودنا في إثبات عمالة المخالفين، والقوم الذين نحذر من الاغترار بدنياهم، يملكون القنابل النووية، والصواريخ العابرة للقارات، وطائرات بلا طيار، وبوارج تحمل الطائرات، وأساطيل تجوب البحار، ومراكب تغوص في عمقها، وشقوا الأرض واستلوا ثرواتها وكنوزها، ولم يكتفوا بذلك حتى غزوا الفضاء الخارجي، فصاروا يتحكمون بالأرض من السماء، ويرسلون طائراتهم لتضع صواريخهم حيث يشاءون، وهم متكئون على كراسيهم الدوارة، ويحتسون مشروباتهم الروحية كما يسمونها.
ولما نزل نتساءل هل يجوز أكل لحم البطريق، بل بلغ بنا الأمر ورعاً وتديناً أن نبحث: هل يجوز أكل لحم الجني؟؟؟ وهل يتلبس الجني بالأنسي، وهل أفطر إذا بلعت ريقي وأنا صائم؟ وأسئلة ما أقربها من هذا، لا أقول إلا إنها من شغل عقول الأمة بما يعيقها لتلحق بالركب الذي يصنع الحياة، ثم نأتي بكل بجاحة ونقول: إن ديننا دين العلم، ودين المعرفة، والحال كما يقال: صدقك وهو كذوب!!!![/ALIGN]
[COLOR=red]الشيخ / عادل الكلباني
" صحيفة عين حائل "[/COLOR]