[ALIGN=CENTER][COLOR=red]التمدن عن طريق الكلاب[/COLOR]
تحاول الأمم المغلوبة أن تحاكي الأمم الغالبة في ما أبدعته وأجادت فيه، فتعجز في الغالب، فتعود لتحاكيها في أمور هزيلة وسخيفة لا تكلفها جهدا.. وقد سافر شباب من الشرق إلى الغرب فانبهروا بالحضارة المادية واندهشوا من ضخامة الاختراعات والاكتشافات والتطور الدنيوي المذهل، ولكنهم لعجزهم عن صعود هذا السلم المكلف المرهق، أرادوا تقليد الغرب في مشاهد باهتة ومظاهر سخيفة ليظهروا أمام الآخرين بمظهر المتمدن الحضاري، فعادوا إلينا بأدمغة جامدة وضمائر ميتة وعليهم صورة الغرب في الظاهر؛ فمنهم من تقلّد سلسلة في عنقه وفي يديه، مع قصة لشعر رأسه، وجينز محزوق يرتديه، وفنيلة عليها صور نجوم الفن والكرة في الغرب، ومعه كلب يقوده يركب هو وقرينه الكلب سيارة مكشوفة (الخنفساء) ويعبر بها شوارعنا؛ ليرينا تمدنه وتحضره، ويا للخيبة والخسارة إن كان هذا هو التمدن والتحضر!
إذا كان غايته كلبا يصاحبه وينام ويأكل معه، والكلب في شريعتنا لا يُقتَنى إلا لثلاثة أسباب كما في الحديث الصحيح: في الصيد، وحفظ الماشية، وحراسة الحرث، أما غير ذلك فمن اقتنى كلبا أو أدخله بيته بغير تلك الأسباب، فإنه فعل محرما ينقص من أجره كل يوم قيراطا.. والكلب نجس حتى إنه إذا ولغ في الإناء يُغسل منه الإناء سبع مرات إحداهن بالتراب، وملابسة الحيوان والبهائم تورث لمن لابسها وصاحبها أخلاق هذه البهائم كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه «اقتضاء الصراط المستقيم» وذكر الحديث الصحيح: «الكبر والخيلاء عند أصل أذناب الإبل، والسكينة والوقار عند أهل الغنم»، فاكتسب أهل الإبل من مصاحبة الإبل الكبر والخيلاء، واكتسب أهل الغنم من مصاحبة الغنم السكينة والوقار، والصاحب ساحب، والقرين بالمقارن يقتدي، وقد ذم الله أعداءه الفجرة الأشقياء بأنهم أكثر انحطاطا في الفهم من البهائم، قال تعالى: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا»، وفي قوله تعالى: «وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم». يقول سفيان ابن عيينة: ما من إنسان إلا وفيه شبه بحيوان؛ فمنهم من يشبه الأسد أو الصقر أو الثور أو الذئب أو الثعلب أو الرخم أو الهدهد أو الغراب.. إلى آخر أنواع الحيوان، والمتنبي عرّض بحساده وذكر أن الإبل أذكى منهم؛ يقول مهاجما عدوه اللدود الوزير الصاحب بن عباد وقد مر بأرضه مسافرا إلى سعيد بن عبد الله، فأرسل قذيفة إلى الصاحب يقول فيها:
لوِ استَطَعْتُ رَكبتُ النّاسَ كلّهمُ إلى سَعيدِ بنِ عبد الله بُعْرَانَا فالعِيسُ أعْقَلُ مِنْ قَوْمٍ رَأيْتُهُمُ عَمّا يَراهُ منَ الإحسانِ عُمْيانَا أبدو فيَسجُدُ مَنْ بالسّوءِ يذكُرُني فَلا أُعاتِبُهُ صَفْحا وإهْوَانَا والكلب أخس الحيوانات وأقذرها وأحطُّها، حتى إن الله وصف العالم الخائن الفاجر بالكلب فقال: «فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث».
وعلى طاري الكلاب وكلام أبي الطيب المتنبي على متمه، كان دعبل الخزاعي الشاعر الشهير يسمى «شاعر الكلاب»؛ لأنه أمر عند موته أن يُدفن عند باب مقبرة آل البيت بالنجف ويُكتب على قبره: «وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ»، وقد هجا خلفاء بني العباس بالترتيب؛ الأول فالأول، فلما تولى المعتصم وكان الثامن من خلفاء بني العباس، قال دعبل:
ملوك بني العباس في الكتْبِ سبعةٌ ولم تأتنا في ثامن منهُمُ الكتْبُ كذلك أهل الكهفِ في الكهفِ سبعةٌ وثامنهمُ فيما أتى عندنا كلبُ وإن أبري الكلبَ عن شبهٍ بكم لأن لكم ذنبٌ وليس له ذنبُ فما جزاء من أحرجنا أمام العالم وأرسلناه إلى الغرب؛ ليكون مهندسا أو طبيبا أو طيارا، فعاد يجر في شوارعنا زميله الكلب بحبل من مسد في عنقه كأنه حمالة الحطب. إن التمدن هو الرقي بالذوق، والتعالي إلى هامة المجد، والانتصار على الرذائل، وإثراء العقل بالمعرفة، والقلب بالإيمان، واليد بالعمل.. التمدن ليس المظهر المخزي الباهت السخيف الذي يحاكي أراذل القوم ممن عجز عن الإبداع والإنتاج والعمل فصار صفرا في هامش الحياة[/ALIGN]
[COLOR=blue]
الشيخ/ عائض القرني
" صحيفة عين حائل"[/COLOR]