[ALIGN=CENTER]
[COLOR=red]حين كان القمل ينهش أجسادنا !!![/COLOR]
يستحيل أن يعاني جيل اليوم من نفس معاناة جيلي مع القمل بعد أن توفرت له أسباب النظافة من توفر الماء والصابون والشامبو والمطهرات والمبيدات بأنواعها المختلفة. معاناة جيلي مع القمل لم يكن سببها عدم حرصنا على النظافة ولكن كانت بسبب ضيق ذات اليد وعدم توفر شبكات المياه والصابون والشامبو والمطهرات والمبيدات التي ينعم بها جيل اليوم. كنا نعاني من شح المياه، حيث كانت الأمهات يجلبنه على رؤوسهن من الآبار وبكميات لا تكاد تكفي للشرب والطبخ فكيف لنا أن نفكر مجرد التفكير بالاستحمام في مثل هذه الظروف البائسة. أما أدوات النظافة فلم يكن لها وجود أصلا في حياتنا اليومية ولا في أسواقنا التجارية البسيطة والبدائية فكان من الطبيعي أن يجد القمل بيئة ملائمة للتوالد والتكاثر في أنحاء متفرقة من أجسادنا وأن يجد الدفء والسلامة في ملابسنا الداخلية فيتنقل بكل حرية من مكان إلى آخر في أجسادنا الغضة الطرية.
لقد كان القمل يعيش بيننا وتعايشنا معه فترة طويلة من الزمن وتشكلت ثقافة اجتماعية للتعامل مع القمل فكان الأب وكانت الأم يمارسان التسلية في رؤوس الأبناء والبنات بحثا عن القمل ومحاولة القضاء عليها باستخدام الأظافر لقصعها ( قتلها ) ومن ثم شفط الهواء إلى داخل الفم بصوت مسموع تعبيرا عن الفرح والسرور مع كل صيد ثمين من القمل يعثران عليه في رؤوسنا الملغمة بقطعان هائلة من القمل وبمختلف الأحجام، كما وجدنا نحن في النار المشتعلة خير معين لنا – بعد الله - للتخلص من القمل حيث كنا نحرك ملابسنا الداخلية وننشرها فوق لهيب النار لتتساقط كميات هائلة من القمل فنسمع دوي الإنفجارات التي تشبه دوي انفجار بعض الألعاب النارية اليوم.
كان من الطبيعي آنذاك أن ترى فلول القمل تتحرك على ثياب زميلك الذي يجلس بجانبك في الصف الدراسي - فكلنا في الهواء سواء - ولا مجال للاستغراب من ذلك. وكان الجميع يهرش أماكن متفرقة من جسده حتى تسيل الدماء من بين كتل الأوساخ المتراكمة على أجسامنا بفعل شح المياه وغياب أدوات النظافة والمطهرات.
ولعل الطريف في الأمر أننا وفي مثل هذه الظروف المليئة بالقمل كنا ندرس في كتاب المحفوظات للمرحلة الابتدائية أنشودة بعنوان ( الولد النظيف ) وكان محتواها كما يلي:
الولد النظيف ... منظره ظريف
وكلنا نحبه ... ودائما نجله
والولد المستقذر ... هو الذي يحقر
ولا يحبه أحد ... من كل سكان البلد
كنا جميعا آنذاك ذلك الولد المستقذر المحقر الذي لا يحبه أحد من كل سكان البلد دون أن ندري ولكننا كنا نردد أبيات هذه الأنشودة من باب الترديد والحفظ لاجتياز الاختبار لا أكثر. فكيف لأحدنا أن يكون ذلك الولد النظيف وهو لا يجد البيئة والظروف والأحوال الضرورية التي تعينه على النظافة. فقد كنا مكرهين على الاستقذار ولم يكن بإرادتنا أو اختيارنا.
والغريب في الأمر أنني سمعت في إحدى القنوات الإخبارية أنه ثبت من نتائج بعض الدراسات الطبية أن الناس الذين عاشوا في بيئات متسخة وغير نظيفة وعانوا من ويلاتها في طفولتهم تتشكل لديهم مناعة أقوى من أقرانهم الذين عاشوا في بيئات نظيفة وصحية. ولا أعلم عن مدى صحة مثل هذه النتيجة العلمية وأخشى أن تكون من باب العزاء لنا نحن على معاناتنا آنذاك. كما أصابني الذهول حين ذكر لي أحدهم – والعهدة على الراوي - بأن الصيدليات أصبحت اليوم تبيع القمل بمبلغ قد يصل إلى 100 ريال للقملة الواحدة بحجة أن لها فوائد صحية ومن أهمها الحيلولة دون الإصابة بالجلطات بحكم أن القمل يشفط الدم الفاسد من جسم الإنسان. ولكم أن تتخيلوا مقدار ثروتي لو أنني جمعت فلول القمل التي عانيت منها في طفولتي واضطررت إلى التخلص منها آنذاك بكل الطرق والوسائل المشروعة وغير المشروعة وهي بالمئات إن لم تكن بالآلاف ثم بعتها على الصيدليات في الوقت الراهن ولكنها إرادة الله ولا راد لقضائه.
هل استوعبتم الدرس أيها الشباب والشابات من جيل اليوم وعرفتم حجم معاناة جيلي مع القمل وغيره لتدركوا حجم النعم التي تنعمون بها اليوم؟ أتمنى ذلك ... هذا للجميع أطيب تحياتي.[/ALIGN]
[COLOR=darkblue]أ.د عبد الله محمد الفوزان
أستاذ علم الاجتماع بجامعة حائل
( صحيفة عين حائل الإخبارية ) خـاص [/COLOR]