[ALIGN=CENTER][COLOR=red]جريدة شعبية [/COLOR]
المتابع للصحافة المطبوعة في السعودية، يستطيع أن يقف على خطها وهويتها بسهولة، والناس يشترون أو يتصفحون جريدة الرياض مثلا لأن عبد السلام الهليل يرسم كاركاتيرا يوميا فيها، ويفعلون الشيء نفسه مع جريدة الجزيرة وعكاظ والحياة والوطن لقراءة محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ، ولو اختلفوا معه، وعبده خال وخلف الحربي وعبد العزيز السويد وصالح الشيحي، وكل هؤلاء بما فيهم الهليل يتمسكون بالطرح الشعبي في التناول والمعالجة، ويتكلمون بلسان فصيح وبسيط، وربما كان السبب الأول في انتشارهم والإقبال على مطبوعاتهم، هو نزولهم إلى القاريء والكلام معه بلغة تحترمه وتدافع عن قضاياه ولا تتفذلك عليه، رغم أن استعراض العضلات اللغوية ليس صعبا عليهم والدليل روايات عبده خال.
لا أفهم لماذا يترفع بعض الناس عن استخدام اللهجة المحكية أو «البيضاء» في الكتابة الصحافية، وينظرون إليها أحيانا وكأنها أمر خارج ومخل بالشرف اللغوي، مع أن مارتن كونبوي قال في مؤلفه: الصحافة المطبوعة والثقافة الشعبية (2002) بأن توظيف لغة الناس وألفاظهم في الصحافة، يساعد في الوصول إلى قاعدة جماهيرية عريضة، ومن الأمثلة جريدة «الميرور» البريطانية، فقد ولدت الجريدة في سنة 1903، وطرحت نفسها أولا كجريدة نسائية أو خاصة بالمرأة ولكنها لم تحقق نجاحا يذكر، ومن ثم تحولت إلى جريدة مصورة أو معنية بالصور فقط، وسجلت حضورا معقولا في سوق الصحافة البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى، إلا أن الوضع تغير مرة أخرى وعادت الجريدة إلى التراجع، وقد كان جمهورها في مطلع الثلاثينيات الميلادية محصورا في النساء من الطبقة الوسطى، ومن جنوب بريطانيا تحديدا، وكتب وليام كوغلان (1936) بأنها كانت بعيدة حتى عن أقـــرب منافسيها في سـوق الصحافة المهتمة بالطبقة العاملة، وذكر هيو كاوليب (1935) وهو قيادي سابق في «الميرور» بأن مبيعات الجريدة في تلك الأيام لم تتجاوز سبعمائة وعشرين ألف نسخة في المتوسط، والرقم فلكي وإعجازي بالنسبة للصحافة المحلية الحالية، إلا أنه كان مـؤشر خطر لجريدة «الميرور» فهو، من وجهة النظر المهنية للجريدة، يساوي ثلث مبيعات «الإكسبرس» خلال الفترة نفسها.
إلا أن «الميرور» أعادت ترتيب أوراقها وطرحت صيغة شعبية يسارية تهتم بالطبقة العاملة وتسخر من السياسة واهلها، بعدما استفادت من تركيز الصحافة الشعبية على اليمين السياسي، ووجود صحافة يسارية متهمة بانتماءاتها السياسية والنخبوية، ومن النماذج اليسارية: «ذي ديلي هيرالد» و «ذي ويكلي وركر» و«ليبرال نيوز كرونيكل»، والجريدة في هويتها الجديدة حينها قدمت نسخة بريطانية مطورة لجريدتي «نيويورك ديلي ميرور» و «ديلي نيوز» وساهمت شركة «جي والتر ثومبسون» للإعلان والتسويق في أمريكا في رسم الشخصية المعروفة لـ «الميرور» أو بعبارة أوضح تصغير حجمها واستخدام الأحرف السوداء الكبيرة في كتابة عناوينها الرئيسية، وإدخال الإثارة إلى المعادلة السياسية في الصحافة، وتقديم الرأي الشعبي على النخبوي أو الحكومي، ولاحظ انتوني سميث (1974) بأن الهوية المطورة لجريدة «الميرور» البريطانية ظهرت بوضوح في الحرب الأهلية الأسبانية (1936ــ 1939) ومابعدها، وخصوصا في في تغطياتها وموادها الخاصة بموضوعات الحروب وشؤون السياسة الدولية، وأنها انشغلت بالجانب الإنساني والمواد المثيرة ولو كانت سطحية، والأمر لايتوقف عند الأخبار وإنما يمتد كذلك إلى مقالات الـرأي، وللعلم ومن باب إبراء الذمة، فالجـريدة لايعتمد عليها كمرجع موثوق أو موضوعي عن أي حدث تاريخي، لأنها منحازة وعاطفية، وتتكئ دائما على الوطنية والحالة المزاجية لمجتمعها، وللتأكيد فالجريدة دعمت تطلعات النازيين و «أدولف هتلر» في الحرب العالمية الثانية، ويجوز القول إن تحولاتها التاريخية أو على مستوى المواقف والأفكار، لايحركها إلا ترمومتر المصالح المادية ورغبات القراء، والسابق بدون شك لايلغي دورها المؤثر في السياسة البريطانية، وانتقادها للحروب غير الضرورية والإنفاق الخارجي المبالغ فيه، وكشفها لطموحات النخب السياسية والعسكرية في المملكة المتحدة، وبالذات في أوقات الحروب، وفيها نشر جون ريتشارد بيلغر، يوم 7 مايو 2004 بأن اشتراك بريطانيا في الحرب على العراق، لايجسد إلا منهجا معاصرا للإمبريالية العنصرية، وساوى بين القتل العشوائي للعراقيين والعمليات الانتحارية، وطالب بمحاكمة المتورطين، وكل من يشوه صورة المجتمع البريطاني المتحضر والإنساني.
تجربة الميرور نجحت في التوفيق بين المكاسب المادية المرتفعة وإشباع اهتمامات الطبقة العاملة، وهذه التوليفة الفريدة صعبة جدا في صحافة العالم العربي، والتفكير في تنفيذها قد يؤدي إلى إفلاس المؤسسات الصحافية، أو بأقل تقدير منعها من الصدور وسحب تراخيصها في يوم وليلة، وكم نحتاج فعلا إلى صحافة «تحلم» وتعترف بفداحة «الحلم» دون أن «تقذف» أو «تقتل» أو «تتهم» أو تراجع أحلامها حتى تتأكد بأنها لن تغضب الرقيب، أو تخرج أدواته الحربية من أدراجها، أو تستفز «العقد» وأصحاب العقد، ونحتاج إلى المتعة والتسلية والمناكفات الجانبية، وإلى المختلفين والمختلفات، وإلى الأقلام المحلقـة في سماء الواقع بخفة ورشـاقة وتلقائيـة، وإلى خطوط حمـراء أقل وسقف مرتفع ومتسامح، نحتاج إلى جريدة شعبية من أولها إلى آخرها، والقائمة تطول ولكن من يسمع...![/ALIGN]
[COLOR=blue]
بدر بن سعود
" عين حائل"[/COLOR]